فمن هذا المثال أيضاً يستفاد أنّ المراد من المصالح المرسلة هي المصالح على مذاقّ الشرع ، لأنّ المستفاد من مجموع الأحكام الشرعيّة أنّ حفظ كيان الإسلام أهمّ عند الشارع من حفظ النفوس المحترمة.
هذا ـ ولابدّ هنا من إضافة نكتتين غفل عنهما في كلماتهم :
إحديهما : في الفرق بين الاستحسان والمصالح المرسلة ، فالظاهر أنّ في استحسان شيء يكفي مجرّد أن يستحسنه الطبع والفطرة من دون أن يلحظ أنّ فيه مصلحة أو مفسدة ، لأنّ الحسن والقبح في الأفعال كالحسن والقبح في الطبيعة ( كحسن صوت العندليب وقبح صوت الحمار ) له مبدأ فطري لا حاجة فيهما إلى درك المصلحة أو المفسدة ، بينما في المصالح المرسلة الحاكم هو العقل والبرهان لا الطبع والفطرة وإن استعملا ( الاستحسان والمصالح المرسلة ) في بعض الكلمات في معنى واحد.
الثانية : أنّ ما ذكرنا في الاستحسان من تقسيمه إلى القطعي والظنّي يجري هنا أيضاً ، فالمصالح المرسلة أيضاً تارةً يكون حكم العقل بها قطعيّاً ( أي القطع بوجود المقتضي وفقد المانع ) فيكون حجّة بلا ريب ، واخرى يكون ظنّياً فلا دليل على حجّيته.
أمّا الأقوال في المسألة ، فاختلف العامّة في حجّيتها ، وعمدة الأقوال فيها ثلاثة :
الأوّل : قول الشافعي بإنكارها حيث حكى عنه عبارتان معروفتان :
إحديهما : « أنّه من استصلح فقد شرع كمن استحسن ».
ثانيهما : « إنّ الاستصلاح كالاستحسان متابعة الهوى » (١).
الثاني : قول مالك بإثباتها وحكي عنه أيضاً عبارة وهي « أنّ الاستصلاح طريق شرعي للاستنباط فيما لا نصّ فيه ولا إجماع » (٢).
الثالث : ما حكي عن الغزالي من التفصيل بين الضروريات وبين الحاجيات والتحسينيات ، والمراد من الضروريات ما لا يمكن حياة الإنسان إلاّبه ، والمراد من الحاجيات أنواع المعاملات التي توجب رفع بعض الحاجات وإن كانت حياة الإنسان ممكنة بدونها ، والمراد من التحسينيات غير الضروريات والحاجيات من أنواع اللذائذ المشروعة التي
__________________
(١) راجع الاصول العامّة : ص ٣٨٥.
(٢) المصدر السابق : ص ٣٨٤.