وفي الواقع لا يصادر الإيمان بسنن التاريخ وقوانينه الصارمة حرّية الإنسان ، ونستدلّ على ذلك بأمرين :
أوّلاً : ما ذكره صاحب المدرسة القرآنية في الردّ على هذه التوهّم وأنّ ـ السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الإنسان؛ بل تجري من تحت يده ، ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد ]. ، ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [ الجن ] ، إذن هناك مواقف إيمانية للإنسان تمثّل حرّيته واختياره وتصميمه ، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية تستتبع جزاءاتها المناسبة تستتبع معلولاتها المناسبة ـ (١).
ثانياً : والجواب الثاني الذي نقتبسه منه أيضاً : أنّ سنن التاريخ ـ وكما يشرحها القرآن ـ لها أشكال ثلاثة أساسية :
الشكل الأوّل : سنن ذات قضية شرطية : كالنموذج الذي ذكرناه في الفصل الثالث عن العلاقة بين العدالة والتوزيع ووفرة الثروات.
الشكل الثاني : شكل القضية الناجزة ، والتي تشبه القوانين الطبيعية الكونية.
الشكل الثالث : السنن التاريخية المصاغة على صورة اتجاه عام في حركة التاريخ. والفرق بين هذا الشكل والسابق أنّ هذا الشكل يقبل التحدّي ولو في المدى القريب ، أمّا الثاني فهو صارم حدّي لا يمكن تحدّيه ولا تجاوزه لا في المدى القريب ولا البعيد.
مثال ذلك : الدين سنّة تاريخية لكنّها ليست صارمة؛ بل تقبل التحدّي فيمكن للمجتمع أن يتحدّاه ولكنّه يدفع الثمن أخيراً ، أمّا التركيبة التكوينية للإنسان ( طين وروح ) فهذه سنّة تاريخية صارمة لا يمكن تحدّيها ، الاختيار للإنسان أو أنّه ( أمر بين أمرين ) هذه سنّة تاريخية صارمة.
والإشكال الذي يثيره البعض حول التنافي بين فكرة القانون التاريخي والاختيار يرجع إلى توهّم البعض أنّ القانون التاريخي لا يكون إلا على الشكل الثاني الصارم ، على شاكلة قانون الجاذبية أو غليان الماء ، لا يقبل التحدّي.
__________________
١ ـ محمّد باقر الصدر ، التفسير الموضوعي للقرآن ، ص ٨٤.