ثالثاً : للوصول بالمجتمع لهذا المستوى العالي وفي ضوء ما تبنّيناه من رؤية في الفصل الرابع كان التخطيط الإلهي للتاريخ الذي رسم لهذا المجتمع الإنساني مراحل متعاقبة ـ مع لحاظ تمرّد الناس وقدرتهم على الرفض وتحويل مجرى التاريخ ـ تبدأ من حضانة آدم في الجنّة ، فمرحلة الفطرة والتي كان الناس فيها أُمّة واحدة يعيشون على الفطرة والتوحيد ثمّ مرحلة التشتّت التي شهد فيها المجتمع الانقسامات والنزوع نحو التسلّط نتيجة التفاوت في الإمكانات والقابليات ، وانصبّت جهود الأنبياء في مرحلة التشتّت على تصحيح مسار الإنسانية والرقي بوعيها وحسّها الديني لبلوغ درجة تؤهّلها تقبّل الأطروحة الكاملة لقيام المجتمع العالمي المنشود ، ألا وهي أطروحة الإسلام.
وكان الإسلام تتويجاً لجهود كلّ الأنبياء السابقين وإيذاناً بدخول مرحلة النبوة الخاتمة حيث بلغت معه المفاهيم العقائدية أعلى درجات العمق والدقّة خاصّة التوحيد الذي عرف في الإسلام أسمى معاني التنزيه والتجريد ، وكذلك الأحكام التشريعية التي اكتملت لتشكل منظومة حياتية متكاملة ، تخطّط للحياة في جميع الأصعدة. وحرص التخطيط الإلهي على تطبيق هذه الأطروحة المتمثّلة في رسالة الإسلام وتفعيلها عبر فترة وصاية بعد النبي صلىاللهعليهوآله وبقيادة الأئمة عليهمالسلام ، ولكن الانحراف الذي حصل في التاريخ وأقصى القادة الربّانيين عن مناصبهم وحرم الأُمّة من فيوض الإمامة والولاية ، كان له أثره في التاريخ والتخطيط الإلهي.
فاضطرّ الإمام الثاني عشر عليهالسلام المنوط بعهدته التطبيق الكامل للأطروحة العالمية بعد قرنين ونصف من الوصاية الإلهية إلى الغيبة ، فكانت حقبة الغيبة الكبرى التي تمهّد وتهيّء الساحة والظروف لذلك الدور وتلك المرحلة التي تأجّلت بسوء اختيار الناس والتي لا تزال الرقاب تشرئبّ إليها منتظرة ، متلهّفة.
فغاب الإمام حتّى تستكمل الشروط لتوافر الأرضية الملائمة لقيام المجتمع العالمي الرشيد وهما :
أ. الطليعة المقاتلة والمعاهدة من الأنصار.
ب. الظروف السياسية والحضارية عموماً لقيام دولة عالمية.