وصل القانون في العصر الحاضر إلى مراق عليا حتّى أصبح من أدقّ العلوم الإنسانية ، وإذا كنّا قد نجد فيه بعض النواقص والاختلافات بين المفكّرين في جملة من حقوله ، فإنّ التكامل التدريجي للقانون خلال التجارب الطويلة كفيل بأن يزيل هذه النواقص ، ويزيد في إدراك الفكر القانوني لذينيك المرحلتين الأساسيتين ، مما يفتح أمام القانون فرصة الوصول التدريجي إلى إدراك العدل الحقيقي والتذليل الكامل للبشرية ـ (١) ، ومع بلوغ القانون العدل الحقيقي ، والفهم الكامل للعدل يمكن حينئذٍ تنظيم المجتمع وفق هذه الصيغة القانونية الراقية ، ويتحقّق بذلك المجتمع السعيد.
ويرد على هذه الأطروحة جملة من المناقشات :
أوّلاً : إنّ الإنسان من الصعب أن يدرك المصالح الواقعية ، ويحيط بالعدل الكامل؛ لأنّه بحكم تركيبته التكوينية تتجاذبه ميول ذاتية تدفعه نحو المصلحة الشخصية ، أو نحو الانحياز إلى العرق واللون والطائفة والطبقة ... ، فمن المتعذّر أن يتجرّد الإنسان من كلّ هذه الانتماءات ليشرّع قانوناً عادلاً من جميع الجهات ، وهذا يفسّر لنا تنصيص الإسلام على أنّ التشريع بيد الله وعجل ، وجعل التوحيد التشريعي من مظاهر التوحيد الأفعالي.
ثانياً : لو فرضنا أنّ الإنسان بلغ هذه الدرجة التي تخوّله سنّ قوانين موضوعية تشخّص العدل الأكمل فتوصل إلى المصالح الواقعية للفرد والمجتمع ، فمن الصعوبة بمكان أن يتوافر مجتمع يتحرّر بدوره من كلّ العوائق لتطبيق هذه الأطروحة.
ثالثاً : إنّ سلطة القانون مهما أوتيت من نفوذ فلن تستطيع أن تراقب الإنسان في كلّ جزئيات حياته ، ولن يقدر أن يمنح الإنسان الشعور بالمسؤولية التي تجعله يراقب نفسه في كلّ موقف وعند كلّ منعرج ضماناً لتطبيق العدالة.
رابعاً : إنّ القول بأنّ الفكر القانوني يتجه نحو التوحّد زعم باطل ، والدليل
__________________
١ ـ محمّد صادق الصدر ، اليوم الموعود ، ص ٢٩.