وقدرة خصوصاً ، وآيات أخرى تتحدّث عن جعل آخر مقابل الجعل التكويني ( الخلق ) وهو الجعل التشريعي ، وأنّ غايته أيضاً معرفة صفات الله ، ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [ المائدة ].
فمعرفة الله وتلمّس صفاته هدف ذلك الجعل التكويني وهذا الجعل التشريعي.
ولا تخلو الأحاديث والروايات من الإشارة إلى هذا البعد النظري للعبادة : معرفة الله ، من هذه الروايات : ـ كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف فخلقت الخلق ـ.
أما البعد العملي فيراد به السير العقلي والحثيث نحو الله ، وهو ما عبّرت عنه آيات قرآنية كثيرة منها : ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) [ الانشقاق ].
ومن اللافت أنّ الآية جاءت مطلقة لم تقيّد الإنسان بقيد الإيمان ، فهذه الحقيقة الموضوعية ـ الكدح نحو الله ـ تشمل المؤمن والكافر ، وخصوصية المؤمن أنّه يستشعر هذا السير نحو الله ويعمّق في نفسه هذا التوجّه ، فيكون كدحه عبادة واعية وتسبيحاً مقصوداً ينسجم مع حركة ذرّات الكون وتسبيحها العام ، ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَ كِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) [ الإسراء ].
وأمّا الإنسان الكافر فلن يكون كدحه ـ عبادة ـ ؛ ولكن حركة نحو جزائه الذي لا يفوته ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ النور ].
هذه العبادة بمعناها الشامل هي برنامج الاستخلاف والاستئمان الإلهي : رسالة الخلافة ، وهكذا يتكامل مفهوم العبادة كغاية للخلق مع مفهوم الخلافة.
فالخليفة عن المستخْلِف الأصيل لابدّ له من منهج يتحرّك عبره ليطبّق إرادة وبرنامج المستخلِف ، والعبادة بمعناها العام في البعده النظري والعملي ترجمة لصفات الله وأسمائه ، ـ تشبّهوا بأخلاق الله ـ وهي عنوان هذا البرنامج.
( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ