سيرجعه إلى أبيه ليودّعه الوداع الأخير إلّا أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كلّ جانب ، فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً تشفّياً منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته : « عليك منّي السلام أبا عبد الله ، هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : إنّ لك كأساً مذخورة » (١) .
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه فقطّعت قلبه ، ومزّقت أحشاءه ، ففزع إليه وهو خائر القوى ، مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خدّ ولده ، وهو جثّة هامدة ، قد قطعت جسمه السيوف ، فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق : قَتَلَ اللهُ قَوْماً قَتَلُوكَ ، يا بُنَي ، ما أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللهِ ، وَعَلَى انْتِهاكِ حُرْمَةِ الرَّسُولِ ، عَلَى الدُّنْيا بَعْدَكَ الْعَفا (٢) .
وكان العباس عليهالسلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه ، وذهبت نفسه حزناً وأسى على ما حلّ بهم من عظيم الكارثة ، وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم الرزيّة ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبيّ صلىاللهعليهوآله زينب عليهاالسلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبّت عليه تضمّخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة : وا ابن أخاه . . وا ثمرة فؤاداه .
وأثّر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزّيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردّد بأسى : عَلَى الدُّنيا بَعْدَكَ العَفا .
لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتزّ من هولها الجبال ، لقد تجرّعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من
__________________________
(١) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٢) نسب قريش : ٥٧ . تاريخ الاُمم والملوك : ٤ : ٣٤٠ . الكامل في التاريخ : ٣ : ٢٩٣ .