ويوم أحد تمسّك الكفار بالقتال فقوبلوا بالبيان ، وبه يعلم الجواب لمن تتبع المتشابه من القول والفعل. وأوجب الحج في آل عمران ، وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بتمامه بعد الشروع فيه ، ولهذا ذكر البيت والصفا والمروة. وكان خطاب النّصارى في آل عمران أكثر ، كما أنّ خطاب اليهود في البقرة أكثر ؛ لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها ، والنبيّ صلىاللهعليهوسلم (١) [لما هاجر إلى المدينة] (١) دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر ؛ كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ؛ ولهذا كانت السور المكيّة فيها [الدين] (٢) الذي اتفق عليه الأنبياء ، فخوطب بها جميع الناس والسور المدنية فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين ، فخوطبوا : يا أهل الكتاب ، يا بني إسرائيل.
وأما سورة النساء فتتضمّن جميع أحكام الأسباب التي بين الناس ؛ وهي نوعان : مخلوقة لله تعالى ، ومقدورة لهم ؛ كالنسب والصهر ، ولهذا افتتحها الله بقوله : (رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) (النساء : ١) ، ثم قال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ؛ وبين الذين يتعاهدون ويتعاقدون فيما بينهم ؛ وما [٣٨ / ب] تعلّق بذلك من أحكام الأموال والفروج والمواريث. ومنها العهود التي حصلت بالرسالة (٤) [والمواثيق التي حصلت بالرسالة] (٣) والتي أخذها الله على الرسل.
وأما المائدة فسورة العقود ، وبهنّ تمام الشرائع ؛ قالوا : وبها تم الدّين ، فهي سورة التكميل. بها ذكر الوسائل كما في الأنعام والأعراف ذكر المقاصد ، كالتحليل والتحريم ؛ كتحريم الدماء والأموال وعقوبة المعتدين. وتحريم الخمر من تمام حفظ العقل والدين.
وتحريم الميتة والدم والمنخنقة ، وتحريم الصيد على المحرم من تمام الإحرام. وإحلال الطيبات من تمام عبادة الله. ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد صلىاللهعليهوسلم كالوضوء والحكم بالقرآن ، فقال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (المائدة : ٤٨) وذكر أنه من ارتد عوّض الله بخير منه. ولا يزال هذا الدين كاملا ؛ ولهذا قيل : إنها آخر القرآن نزولا ، فأحلّوا حلالها ، وحرّموا حرامها.
وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات : البقرة وآل عمران والنساء والمائدة من
__________________
(١) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة.
(٢) ساقطة من المخطوطة.
(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المطبوعة.