تاريخ الشافعي رضياللهعنه أنه في محنته التي اتّهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن ؛ وسيق بسبب هذه التهمة إلى الرشيد مكبّلا بالحديد في بغداد ؛ سأله الرشيد حين لمح علمه وفضله ، فقال : كيف علمك يا شافعي بكتاب الله عزوجل؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به. فقال الشافعي : عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله تعالى قد أنزل كتبا كثيرة. قال الرشيد : قد أحسنت ، لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد صلىاللهعليهوسلم. فقال الشافعي : إن علوم القرآن كثيرة ؛ فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه ، أو عن تقديمه وتأخيره ، أو عن ناسخه ومنسوخه ، أو عن أو عن..؟؟ وصار يسرد عليه من علوم القرآن ، ويجيب على كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين.
فأنت ترى من جواب الشافعي هذا ، ومن فلجه بالصواب في هذا الموقف الرهيب ما يدلك على أن قلوب أكابر العلماء كانت أوعية لعلوم القرآن من قبل أن تجمع في كتاب ، أو تدوّن في علم. وقد نوّه جلال الدين البلقيني في خطبة كتابه «مواقع العلوم» بكلمة الشافعي التي ذكرناها إذ قال : (قد اشتهر عن الإمام الشافعي رضياللهعنه مخاطبة لبعض خلفاء بني العباس ، فيها ذكر بعض أنواع علوم القرآن يحصل منها لمقصدنا الاقتباس).
وقد بدأ التأليف في علوم القرآن كفنّ جامع في العصر الذهبي من عصور العلوم الإسلامية ، وهو القرن الثالث الهجري ، حين جمع بعض المفسرين بعض علوم القرآن في تفاسيرهم موزعة على السّور والآيات ، وتكلموا في تفسير كل آية عما يتعلق بها كما جمع العلماء في مقدمات تفاسيرهم بعض علوم القرآن كما فعل ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه) في تفسيره «جامع البيان» والراغب الأصفهاني (ت ٥٠٢ ه) في «تفسيره» ، وابن عطية الغرناطي ، أبو محمد عبد الحق بن عطية (ت ٥٤١ ه) في تفسيره «المحرّر الوجيز» والقرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت ٦٧١ ه) في تفسيره الكبير «الجامع لأحكام القرآن» على تفاوت منهم بذكرها ، وذكر عدد أنواعها. أو التوسع في كل نوع منها على حدة ، ويمكن إفراد هذه المقدمات ككتب مستقلة واعتبارها من أوائل ما ألّف في «علوم القرآن».