حتى صار منه قريبا بقدر مزجر الكلب ، فخطب محمد الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أهل الكوفة قد برح الخفاء وحق التصريح ، إن هؤلاء القوم قد جدوا وتهاونتم ، وصدقوا وكذبتم ، وأيم الله ما بعد موقفكم هذا غاية ، ولا بعد تقاعدكم عنهم فشل ولا مهانة ، فاستحيوا من الله في حقه ، وخيانة محمد في ذريته ، فقد أصبحنا والله بين أظهركم وقد بدت لعدونا مقاتلنا ، فلم يبق إلّا أن يطلعوا على فشلكم ، ويتجاوزوا إليكم حيطانكم ، ثم يقع ما لا مهرب منه ، ويجب ما لا يملك دفعه ، وبكى ، ثم تلا هذه الآية (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، فبكى الناس حوله ، ونهضوا للحرب ، وزحفوا إلى هرثمة ، فلما رأى هرثمة كثرتهم وجدهم (١) صرف أعنة دوابه قبل أن يرمى بسهم أو يزهق بسيف (٢) ، وانصرف الناس من المصلى إلى الكوفة.
قال نصر : فحدثني مشايخ من أهل الكوفة ممن حضر محمدا يخطب الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا كان أربط جأشا ولا أثبت جنابا منه ، والله لقد قربوا منا (٣) حتى لقد كادت تصل إلينا رماحهم (٤) ، وتطؤنا خيلهم وإنه لعلى منبره ماض في خطبته ، ما تزل له قدم ، ولا ينقطع له قول.
عن نصر بن مزاحم (٥) عن عبد الله بن محمد النهشلي قال : إنه لما كان يوم السبت لست بقين من ذي الحجة أقبل هرثمة في جماعة كثيرة من أصحابه ، فخرج إليه أبو السرايا وأهل الكوفة ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل من أهل الكوفة ثلاثون رجلا «وأسر مثلهم» (٦) ، وقتل من أصحاب هرثمة سبعة نفر ، ثم انصرفوا وعاد يوم الثلاثاء لخمس خلون من المحرم (٧) وقد
__________________
(١) نهاية الصفحة [٣٣٣ ـ أ].
(٢) بعد كلمة سيف وردت في (ب ، ج) : ويغرف بسهم.
(٣) في (د ، أ، ج) : قربوا إلينا.
(٤) في (ب ، د) : أرماحهم.
(٥) عنه بنفس الإسناد السابق.
(٦) ساقط في (أ).
(٧) في مقاتل الطالبيين ليلة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة مضت من المحرم. ص (٤٤٤).