يمكث في المجتمع الإسلامي الناشئ إلّا وقتا قصيرا لا يكفي ليتطبع فيه بالطبع الإسلامي الجديد عليه ويتمرّن عليه ليستطيع أن يؤثّر على ذلك المجتمع ذي الحضارة الرومية الّذي امتدّت حضارته إلى آماد بعيدة في الدهر ، بل هو الّذي تأثّر به.
وكان معاوية يبعد من ذلك المجتمع من كان يعترض سبيله من صحابة تطبعوا بالطابع الإسلامي الأصيل نظراء أبي ذرّ وأبي الدرداء وقرّاء أهل الكوفة (١).
كلّ تكلم كانت عوامل أدّت إلى صبغ مدرسة الخلفاء منذ عصر معاوية بطابع ثقافة أهل الكتاب ، ولم تدرس تلك العوامل حتّى اليوم دراسة موضوعية ليعرف مدى أثرها على تلكم المدرسة.
وكان معاوية بالإضافة إلى ما ذكرنا متطبعا بالطابع الجاهليّ ملتزما بأعرافه من التعصّب القبلي ، وإحياء آثاره (٢) ، وكانت له مع ذلك أهداف اخرى من قبيل توريث السلطة في عقبه ، وكسر شوكة المعارضين له من المحافظين الذي يشهرون في وجهه سلاح سيرة الرسول ، وكان لا بدّ له في علاج كلّ ذلك ـ للوصول إلى أغراضه الجاهلية وأهدافه الخاصّة ـ أن يصنع شيئا ، فاستمدّ في هذا السبيل من بعض بقايا
__________________
(١) راجع «أحاديث أم المؤمنين عائشة» فصل (مع معاوية) ص ٢٣٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ط. مصر الأولى ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠.
(٢) في الأغاني ط. دار الكتب ٢ / ٢٤١ ـ ٢٥١.
عند ما كان مروان واليا لمعاوية على المدينة ، حدّ عبد الرحمن بن أرطاة على شرب الخمر. وكان في الجاهلية حليف حرب جد معاوية ، فكتب إليه معاوية أما بعد فإنّك جلدت حليف حرب أمام الناس ثمانين جلدة ، ولو كان حليف أبيك الحكم لما فضحته. أما والله إمّا ان تفسد حدّك وتعلن خطأك وترد اعتباره ، أو أن ابطل حدّك وآمره بجلدك ثمانين قصاصا ... ففعل مروان ما أمره معاوية ، الحديث.
ومن ذلك أيضا إلحاقه زيادا بنسب أبيه وفقا للأعراف الجاهلية ، وخلافا للأحكام الإسلامية ، والّتي تنصّ
على أن الولد للفراش وللعاهر الحجر. راجع أحاديث أمّ المؤمنين عائشة وفصل استلحاق زياد من عبد الله ابن سبأ ج ١.
وروى ابن عبد ربّه في العقد الفريد ج ٣ / ٤١٣ أنّ معاوية دعا الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب فقال: «انّي رأيت هذه الحمراء (لقب يطلق على غير العرب) قد كثرت ، وأراها قد طعنت على السلف وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق وعمارة الطريق ...».
فخالفه الأحنف وردّ عليه ، وقال سمرة «اجعلها إلي أيّها الأمير فأنا أتولى ذلك منهم وأبلغ إلى ما تريد منه» وأخيرا عدل معاوية عن رأيه في قتلهم.