في مخالفته للنبي (ص) ، وتقصيره في قبول الحقّ ، وميله إلى الباطل ، بعد ما ظهر له من البرهان ، وأوضحه البيان ، بقول يشهد به القرآن. فإنّ الحجّة بذلك عليه أتمّ لا سيما وهم يفزعون إلى رسول الله (ص) فيما أشكل عليهم من تفسير آية ، أو تحقيق رواية ، فيرفع عنهم الشك ، ويرجعهم إلى الحق واليقين.
فمن أراد منهم بعد هذا كلّه مخالفته (ص) فيما أمر به ، أو نهى عنه ، كان حقيقا على الله تعالى أن لا يقبل له عذرا ، ولا يغفر له ذنبا هذا ما تقتضيه حكومة العقل فيمن كان معاصرا له (ص).
أمّا من نأى عن عصره (ص) ، وكان في مثل عصرنا الحاضر ، الذي كثرت فيه الأقاويل ، وتضاربت فيه المذاهب ، وتشتتت فيه الآراء ، واختلفت فيه الأهواء ، ونقصت فيه البصائر ، وعدم فيه التحقيق ، وتباينت فيه الأفكار ، حيث لا يوجد من يفزع إليه على حدّ قولكم ممّن يقوم مقام النبي (ص) في تحقيق الأمور ، ورفع الحيرة ، وقمع الضلال ، ودفع الشكوك ، فباليقين نقطع بقبول عذرهم ، وغفران ذنوبهم ، لأنّهم لم يشاهدوا ما شاهد المعاصرون له (ص) ، ولم يروا ما رأوا من معجزاته الباهرة ، وخوارقه النيرة ، وآياته البيّنة.
فنجم من كل ما ذكرنا أنّ من استبصر من أهل هذا العصر ، وما بعده ، وأشغل نفسه في تحصيل ما فيه نجاته عن بصيرة ، فهو لا شك لذي عقل في أنّه أفضل من كثيرين مستبصرين في عصره (ص) ، لأنّ الآيات البيّنات ، والحجج والدلالات ، التي شاهدوها بباصرة أعينهم ، قد قطعت عليهم الأعذار والبراهين ، التي رأوها قد أزاحت عنهم العلل ، فلم يتكلفوا في طلبها ، ولم تصبهم مشقة في الوصول إليها ، لأنّها قرعت أسماعهم في كل ليل إذا يغشى ، أو نهار إذا تجلّى ، بخلاف هذه العصور التي لم ير الناس فيها إلّا وجوه الجهل والأباطيل ، الأمر الذي يذهل منه الذكي الفطن ، ويضلّ فيه ذهن المتأله الحكيم ،