يحكم العقل ـ بعد عدم إمكانه لأجل المزاحمة ـ بالعمل بهما بقدر الإمكان وهو التخيير بينهما ، والمفروض في المقام عدم شمول شيء من الدليلين لصورة المعارضة ، لأنّهما لبّيّان مجملان.
نعم ؛ لو كان على اعتباره دليل لفظي تعبدي أمكن دعوى شموله لصورة التعارض ، والحكم بالتخيير حسب القول به في تعارض الخبرين الظنيين من حيث السند ، لكنّه ليس كذلك ، مع إنّك ستعرف أنّ التخيير فيها أيضا إنّما هو من جهة الأخبار الغير الشاملة للمقام ، وإلا فبمقتضى القاعدة : الحق التساقط فيهما أيضا لعدم إمكان شمول دليل الاعتبار ـ ولو كان لفظيا ـ لصورة التعارض لعدم إمكان إيجاب العمل بهما عينا حتى يجري التخيير العقلي ، ولا أحدهما معينا ؛ لعدم المعين ، ولا مخيّرا ؛ لأنّه خلاف ظاهر الدليل ، إذ ظاهره وجوب العمل عينا ، مع إنّه مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين على ما سيأتي بيانه.
ثمّ ـ على فرض التخيير ـ لا إشكال في نفي الثالث وإثبات القدر المشترك فيما إذا قال أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، أو كان أحد الدليلين ظاهرا في الوجوب والآخر في الاستحباب فإنّ العالم الفاسق إمّا محرّم الإكرام أو واجبه ، ولا يمكن الحكم بإباحة إكرامه ، وكذا لا يجوز الحكم بالإباحة في الصورة الثانية ، بل يثبت مطلق الرجحان للموضوع المحكوم بوجوبه في أحد الخبرين ، واستحبابه في الآخر.
وأمّا على القول بالتساقط فهل ينفي الثالث فلا يجوز الرجوع إلا إلى الأصل الموافق لأحدهما؟ أو لا ؛ فيجوز الرجوع إلى الأصل وإن كان مخالفا لهما؟ وكذا هل يثبت القدر المشترك وهو مطلق الرجحان في المثال المذكور أو لا؟ لا إشكال فيما إذا علم إرادة أحد الظاهرين ، وشكّ في تعيينه ، لأنّ نفي الثالث وثبوت القدر المشترك (١) حينئذ معلوم ، وأمّا إذا احتمل عدم إرادة شيء منهما ، وإن لم يكن الاضطرار في التأويل إلا بالنسبة إلى أحدهما لا بعينه ، ففيه وجهان : من أنّ الظاهر إنّما يطرح بمقدار المعارضة ، والمفروض أنّ كلّا منهما معاضد للآخر في إثبات القدر المشترك ، والقدر المعلوم إنّما هو طرح أحد الظاهرين ، فيؤخذ بهما في نفي الثالث
__________________
(١) في نسخة (ب) : قدر مشترك.