وقد ذكر (١) سابقا من جملة أدلّة الترجيح بمطلق الظن هذا الأصل ، فلا يمكنه دعوى أنّ إطلاقات التخيير واردة على هذا الأصل ، كيف؟ ولو تمّت الإطلاقات عنده فلا وجه لجعله الأصل دليلا على الترجيح.
ثمّ إنّه ذكر شيئا آخر ؛ وهو إنّه لو بنينا على عدم تقديم الجمع الدلالي المذكور وتوقفنا في مرجحيّة القياس اجتهادا (٢) ، وحكمنا بالتخيير بين الخبرين في مقام العمل ، لو فرض وجود مرجّح معتبر للخبر الآخر المخالف للقياس فهل يؤخذ بذلك الخبر من جهة سلامة ذلك المرجّح عن مزاحمة القياس أو لا؟ وجهان : أقواهما الثاني ؛ وذلك لأنّ القياس وإن لم يثبت مرجّحيّته ؛ إلا أنّ المفروض أنّه لم يثبت عدم مرجحيّته أيضا ، فلا يشمل الدليل الدال على الأخذ بالمرجّحات المرجّح الآخر ، لاحتمال كون القياس معتبرا في الواقع ، وكونه مزاحما ومعارضا لذلك المرجّح والشك في هذا يوجب الشك في شمول الدليل لذلك المرجّح ، فيصير مجملا ، فيكون كما لو لم يكن مرجّح أصلا ، ويحكم بالتخيير بين الخبرين.
وأنت خبير بما فيه! إذ مع الشك في كون القياس مرجّحا والحكم بعدم اعتباره لعدم الدليل ، لا يبقى شيء يزاحم المرجّح المعتبر في الخبر الآخر ، إذ الشك يرتفع بالرجوع إلى أصالة عدم الاعتبار ، مع إنّ نفس إطلاق دليل ذلك المرجح كاف في رفع الشك ، فهو نظير ما لو شك في كون الشيء الفلاني دليلا حتى يعارض الخبر الواحد مثلا ، وعدمه حتى يكون الخبر سليما ؛ فبمجرّد هذا لا يرفع اليد عن الخبر الذي هو دليل معتبر مثلا ، وهذا واضح جدا ، مع أنّه على فرض إجمال ذلك الدليل فأدلّة التخيير أولى بالإجمال ؛ من جهة احتمال كون المرجّح المفروض معتبرا ، فلا وجه للرجوع إليها أيضا ، فمقتضى القاعدة الترجيح بذلك المرجّح ، لعدم الدليل على التخيير.
فإن قلت : إنّ ما ذكرت من إطلاق (٣) دليل اعتبار المرجح المعتبر يكفي في رفع
__________________
(١) في نسخة (د) : ذكرنا.
(٢) هكذا في النسخة.
(٣) جاءت العبارة في نسخة (د) هكذا : من أنّ إطلاق ...