نقطة واحدة ، فاستدلالنا بهذا الشكل يثبت لنا خطأ ما نشاهده من بعيد. في الحقيقة إن قضية امتناع اجتماع النقيضين التي تدرك بالعقل تشكل حجر الأساس لجميع الاستدلالات ، وعليه فلا يؤخد بالدليل الحسي دون الاستناد إليها.
٣ ـ فضلاً عما سبق ، فإنّ ما ندركه بالحس هو ظاهر الأشياء ، وما نرى من الجسم بالحس مجرد مظهره لا شيء آخر ، وعليه فبدون تدخل الإدراكات العقلية لا نستطيع معرفة حقيقة الجسم.
قد يقال : إنّ الحواس لا دور لها لوحدها بل يجب الاستعانة بالإدراكات العقلية حتى في العلوم التجريبية ، لكن ينبغي الاذعان إلى هذه الحقيقة ـ وهي أنّ جميع الإدراكات العقلية حصلت بواسطة الحواس وكما يقول «جان لاك» الفيلسوف الانجليزي المعروف : «لا شيء في العقل لم يوجد قبله في الحس».
إنّ هذه الجملة التي أصبحت مثلاً وبقيت ذكرى منه تدل على أنّ الذهن كان كاللوحة البيضاء في البداية وقد ينقش عليها بعد ذلك بواسطة الحواس ، وأن لا وظيفة للعقل غير «التجريد» و «التعميم» أو «التحليل» و «التركيب» لمدركات الحواس.
لكن هذا خطأ فظيع ، وذلك لأنّ علمنا بأنفسنا (الذي هو علم حضوري) لم يحصل بواسطة الحواس ، كذلك علمنا بوجود الحواس ، أو علمنا باستحالة اجتماع النقيضين لم يحصل عن طريق الحواس ، فنحن ندرك محالة أن نكون موجودين ومعدومين في آن واحد وإن لم نملك حواساً ، كذا الأمر بالنسبة لقضايا أخرى لا حاجة فيها إلى الحواس.
وتوجد أبحاث كثيرة في هذا المجال لو أسهبنا فيها لابتعدنا عن هدف هذا الكتاب ، وتَطَرُّقُنا لبعضها هنا كان بهدف توضيح نظريتي «الحسيين» و «العقليين» الذين حصروا سبل المعرفة في بُعد واحد ، وأن نظريتيهما سقيمتان وأن كلاً من «الحس» و «العقل» يشكلان منبعاً ومصدراً للإدراك ، كما انعكس ذلك في القرآن المجيد.