كيف يمكن أن يكون التأكيد تحصيلاً للحاصل ، وقد قرّر في علم الكلام أنّ من غايات بعث الأنبياء تأكيد الأحكام العقليّة بواسطة التشريع ، ولم يقل أحد هناك بأنّه تحصيل للحاصل ، وقد اشتهر بينهم أنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة.
وسادساً : ما اشتهر بينهم من أنّ الحسن والقبح من المشهورات المبنية على التدريب والتربيّة ( والظاهر أنّهم أخذوه ممّا ذكره ابن سينا في منطق الإشارات ) (١) الظاهر أنّه من المشهورات التي لا أصل لها وكذا ما ورد في كلمات بعضهم من أنّ الحسن والقبح من الامور الإنشائيّة المجعولة من جانب العقلاء ، بل الحقّ أنّه في كثير من مصاديقها من الامور الواقعيّة البديهيّة أو ما يقرب من البداهة ولا دخل للتربية ولا للإنشاء فيهما.
توضيح ذلك : أنّ العدالة والظلم ( المذكورين في المثال ) لهما آثار في المجتمع الإنساني بل في الافراد من الصلاح والفساد لا يقدر أحد على إنكارها ، لا أقول : إنّه من قبيل « الواحد نصف الإثنين » بل أقول : إنّها تدرك بأدنى تأمّل وتفكّر ، فمن ذا الذي لا يدرك المفاسد الحاصلة من الظلم ، والمصالح والعمران والتكامل الحاصلة من العدل ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في موضوعاته ومصاديقه لا في أصله.
وإن شئت قلت : هناك امور ثلاثة : المصالح والمفاسد الحاصلة من العدل والظلم ونفس هذين الوصفين ( العدل والظلم ) ثمّ مدح العقلاء وذمّهم على فعلهما.
فالمصالح والمفاسد امور واقعيّة تكوينيّة ( مثل إراقة الدماء ومصادرة الأموال والاضطرابات الحاصلة منها وخراب البلاد والعدوان على العباد أو الهدوء والراحة وعمارة البلاد ورفاه العباد ، كلّ هذه وأشباهها امور تكوينيّة ) وعلى أثر ذلك يستحسن عقل الإنسان العدالة ويستقبح الظلم من غير حاجة إلى من يعلّمه ويدرّبه أو يقوم بالجعل والإنشاء.
ثمّ بعد ذلك يمدح العادل ويذمّ الظالم ، والإنشاء إنّما هو في هذه المرحلة فقط ( أعني مرحلة المدح والذمّ ) وأمّا الاستحسان والتقبيح العقلييان فهما ينشئآن عن المبادىء الحاصلة من المصالح والمفاسد الخارجيّة وكأنّ الخلط بين هذه الامور الثلاثة كان سبباً للمباني الفاسدة التي أشرنا إليها آنفاً.
__________________
(١) بناءً على ما نقله عنه في اصول الفقه : المجلّد الأوّل ، ص ٢٢٥ ، من الطبع القديم ( دار النعمان بالنجف ).