وجوده وظهوره جهاد كلّ الأنبياء والأوصياء عبر التاريخ ، فكانت الغيبة الكبرى تستهدف أساساً حفظ هذا القائد العظيم لصون هذا العطاء النبوي عبر الزمن وتحقيقاً للإرادة الإلهية التي يستحيل أن تتخلّف ، وفي أجواء الغيبة حفّت المهدي عناية إلهية خاصّة لتضمن له التكامل ( تكامل ما بعد العصمة ) ـ أي ذلك الكمال الذي يؤهّله إلى مرتبة أعلى وأعمق وأسهل في نفس الوقت من أساليب القيادة العالمية ـ (١).
ولهذا اعتبر الشهيد الصدر رحمهالله : ـ إنّ غيبة الإمام وطول عمره من عوامل نجاح المهدي في مهمّته؛ لأنّ التغيير العالمي الذي سيمارسه المهدي يتطلّب وضعاً نفسياً في القائد الممارس مشحوناً بالشعور بالتفوّق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أُعدّ للقضاء عليها لتحويلها حضارياً إلى عالم جديد ـ (٢) ، فهو يقصد أساساً عامل ( هيبة التاريخ ) الذي يقف حائلاً أمام العديد من الثوّار والمصلحين ، ويشلّ حركتهم في التغيير ، هذه الهيبة لابدّ أن تزول من نفس القائد والإمام بمعاصرته لحضارات عديدة ودول كثيرة قامت ثمّ زالت ، وهذا العامل يجعل القائد متماسكاً في نفسه ولن يرهب أية قوّة حضارية مهما كان مداها ، من ناحية ثانية إنّ مواكبته لهذه الحضارات من شأنها أن تعمّق الخبرة القيادية للمهدي عجل الله تعالى فرجه ؛لأنّ الغيبة تضعه أمام تجارب كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط القوة والضعف.
وناقش بعضهم (٣) هذا البعد القيادي من أبعاد الغيبة ولم يستسغ أن يكون للإمام مدارج كمال يرتقيها وراء العصمة فقال : ـ إنّ ما ذكره الشهيد الصدر رحمهالله خطير جدّاً على المستوى العقائدي؛ لاستلزامه نسف الأسس الفكرية العظمى الذي يتحلّى بها الإمام الخليفة المسدّد من قبل السماء والمحيط بتفاصيل الأمور العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإلاّ فجهله بها تعدّ بخساً في درجته ومنزلته وحطّاً من كرامته عليهالسلام مضافاً لاستلزامه الجهل والاحتياج إلى غيره وهو قبيح عقلاً ونقلاً ـ (٤) ، ولكن هذه المناقشة مردودة لعدّة وجوه :
__________________
١ ـ محمّد صادق الصدر ، تاريخ الغيبة الصغرى ، ص ٢٧٧.
٢ ـ محمّد باقر الصدر ، بحث حول المهدي ، ص ٤٢.
٣ ـ محمّد حمود العاملي ، الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية ، ج ٢.
٤ ـ المصدر نفسه ، ج ٢ ، ص ٢٥٩.