الوداع الأخير ، واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً : « يا أبةِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلىٰ شربة ماء من سبيل أتقوّىٰ بها على الأعداء ؟ » (١) .
والتاع الإمام أشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت وعيناه تفيضان دموعاً : وَا غَوْثاهُ ، ما أَسْرَعَ الْمُلْتَقَىٰ بِجَدِّكَ ، فَيَسْقِيكَ بِكَأْسِهِ شَرْبَةً لَا تَظْمَأُ بَعْدَها أَبَداً (٢) .
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه ، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ، ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (٣) .
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه ، قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد أشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء .
يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :
يَشْكُو لِخَيرِ أَبٍ ظَمَاهُ وَمَا اشْتَكَىٰ |
|
ظَمَأَ الحَشَا إِلَّا إلَى الظَّامِي الصَّدِي |
كُلٌّ حُشَاشَتُهُ كَصَالِيةِ الغَضَا |
|
وَلِسَانُهُ ظَمِئٌ كَشِقَّةِ مِبْرَدِ (٤) |
فَانْصَاعَ يُؤْثِرُهُ عَلَيهِ بِرِيقِهِ |
|
لَو كَانَ ثَمَّةَ رِيقُهُ لَمْ يَجْمُدِ (٥) |
__________________________
(١) بحار الأنوار : ٤٥ : ٤٣ . الدمعة الساكبة : ٤ : ٣٣٠ . الفتوح : ٥ : ١١٤ و ١١٥ . مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٢) اللهوف : ٦٧ .
(٣) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٢ : ٣١ .
(٤) الحشاشة : رُوح القلب ورمق الحياة . لسان العرب : ٣ : ١٨٨ ـ حشش .
(٥) رياض المدح والرثاء : ١٢٢ . مقتل الحسين عليهالسلام / المقرّم : ٣٢٣ .