(كان واللهِ بعيدَ المدى ، شديدَ القِوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلا ، يتفجَّرُ العلمُ من جوانِبِه ، وتنطِقُ الحِكمَةُ من نواحيه ، يستوحشُ من الدنيا وزَخرتها ، ويأنسُ بالليلِ ووحشتِه ، غزيرَ العَبرة ، طويلَ الفكرة ، يُعجِبُه من اللِّباس ما قَصُر ، ومن الطعام ما خَشُن. كان فينا كأحَدِنا ، يجيبُنا إذا سألناه ، وينبئُنا إذا استفتيناه ، ونحن واللهِ مع تقريبِه إيانا وقُربِه منّا لا نكاد نكلِّمه هيبةً له. يعظِّم أهلَ الدين ويُقرِّب المساكين. لا يطمع القَويُّ في باطله ، ولا ييأَسُ الضعيفُ من عدله ، وأشهدُ لقد رأيتُه في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليلُ سدولَه ، وغارت نجومُه ، قابضاً على لحيته ، يتململُ تململَ السَّليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا غُرِّي غيري ، أبي تَعرَّضتِ أمْ إليَّ تَشوَّفتِ.
هيهات هيهات قد باينتُك ثلاثاً لا رجعة لي فيها ، فعُمرك قصير وخطرك حقير.
آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
وشهدوا من معاوية بعد هذا الوصف نزف دموعه على لحيته وقوله : رحم الله أبا حسن كان والله كذلك.
مسمعوا جواب ضرار حين سأله معاوية : عن حزنه على علي.
قال : حزب من ذبح ولدها في حجرها. (١)
ووصلهم وعي مالك الاشتر ونظرائه من أبطال العراق مع علي عليهالسلام للمعركة الأساسية مع قريش في الجمل وصفين وهدفهم من تمردهم ، فقد قال رحمهالله في صفين : (إن هؤلاء القوم والله لن يقارعوكم إلا عن دينكم ، ليطفئوا السنة ، ويحيوا البدعة ، ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) (٢) ، وستأتي كلمات أخرى نطق
__________________
(١) قال ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ج ١٨ ص ٣٣١ : بعد ان أورد وصف ضرار : إن الرياشي روى خبره ، ونقلته أنا من كتب عبد الله بن إسماعيل بن أحمد الحلبي في التذييل على نهج البلاغة. ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ، ج ٢ ص ٥٢. وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٢٧٨ ، والمحب الطبري في الرياض النضرة في مناقب العشرة ، دار الكتب العلمية بيروت ، ج ٣ ص ١٨٧. وأبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، ج ١ ص ١٢٦.
(٢) ابن مزاحم المنقري ، وقعة صفين ، ص ٢٥١ ، أقول : وقول مالك رضوان الله عليه (ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة) هذا الأمر هو اعتقادهم إمامة علي بالنص. فهو يحتاج إلى حسن بصيرة من الإنسان ليفارق عقيدته بإمامة قريش المسلمة ويدخل في إمامة علي. اما من