ومنه قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (السجدة : ٢٦ ـ ٢٧). فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعيّة : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) [١٢ / أ] ولم يقل : «أولم يروا» وقال بعد ذكر الموعظة : (أَفَلا يَسْمَعُونَ) [و] (١) لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع أو أخبار القرون وهو مما (٢) يسمع. وكيف قال في صدر الآية التي [في] (١) موعظتها مرئية : [(أَوَلَمْ يَرَوْا)] (٣) ، وقال بعدها : (أَفَلا يُبْصِرُونَ) لأنّ سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئيّ.
و[منه] (٣) قوله [تعالى] : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (هود : ٨٧) ، فإنه لما تقدم ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيدا تاما (٤) لذكر الحلم والرشد ، لأنّ الحلم الذي يصحّ به (٤) التكليف والرشد حسن التصرّف في الأموال ، فكان آخر الآية مناسبا لأوّلها مناسبة معنوية ، ويسميه بعضهم «ملاءمة».
ومنه قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الأنعام : ١٠٣) ؛ فإنّه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له عطف على ذلك قوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ) خطابا للسامع بما يفهم ؛ إذ العادة أنّ كلّ لطيف لا تدركه الأبصار ، [ألا ترى] (٥) أنّ حاسة البصر إنما تدرك اللون من كل متلوّن والكون من كل متكوّن ، فإدراكها إنما هو (٦) للمركّبات دون المفردات ، وكذلك (٧) لما قال : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) عطف عليه قوله : (الْخَبِيرُ) ، مخصّصا (٨) لذاته سبحانه بصفة الكمال ؛ لأنّه ليس كلّ من أدرك شيئا كان خبيرا بذلك الشيء ، لأن المدرك للشيء قد يدركه ليخبره ، ولما كان الأمر كذلك أخبر سبحانه وتعالى أنه يدرك كلّ شيء مع الخبرة [به] (٩) ؛ وإنما خصّ الإبصار بإدراكه ليزيد في الكلام
__________________
(١) من المخطوطة.
(٢) في المطبوعة : (كما).
(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.
(٤) العبارة في المخطوطة : (لذكر الحكم والرشد لأن الحكم العقلي الذي يفتتح به).
(٥) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.
(٦) في المخطوطة : (كذا).
(٧) في المطبوعة : (ولذلك).
(٨) في المخطوطة : (تحقيقا).
(٩) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.