ضربا من المحاسن يسمى التعطّف ؛ ولو كان الكلام : لا تبصره الأبصار ، وهو يبصر الأبصار لم تكن لفظتا (اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) مناسبتين لما (١) قبلهما.
ومنه قوله تعالى : (٢) [(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) ، إلى قوله : (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (الحج : ٦٣ ـ ٦٥) ، إنما فصل الأولى ب (لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث ، وإخراج النبات من الأرض ، ولأنه خبير بنفعهم وإنما فصل الثانية ب «غني حميد» لأنّه قال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، أي لا لحاجة ؛ بل هو غنيّ عنهما ، جواد بهما ؛ لأنه ليس غنيّ نافعا غناه إلا إذا جاد به ، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه ، واستحقّ عليه الحمد ؛ فذكر (الْحَمِيدُ) على أنه الغنيّ النافع بغناه خلقه. وإنما فصل الثالثة ب (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) لأنه لما عدّد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم ، وإجراء الفلك في البحر لهم ، وتسييرهم في ذلك الهول العظيم ، وجعله السماء فوقهم وإمساكه إياها عن الوقوع ، حسن ختامه بالرأفة والرحمة. ونظير هذه الثلاث فواصل مع اختلافها قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ...) [٩٧] الآيات.
وقوله تعالى] (٢) : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحج : ٦٤) ، فقال : (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لينبّه على أن ما له ليس لحاجة بل هو غنيّ عنه ، جواد به ، وإذا جاد به حمده المنعم عليه. إذ (حميد) كثير المحامد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل وسائر النقائص ، فيكون «غنيّا» مفسّرا بالغنى المطلق ، لا يحتاج فيه لتقدير «غنيّ عنه».
ومنه قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (القصص : ٧١). لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء (٣) على الحقيقة (٣) ؛ وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة صار الليل كأنه سرمد
__________________
(١) في المخطوطة : (إلى ما).
(٢) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.
(٣) العبارة في المخطوطة : (للأشياء الحقيقية).