أحدهما : أن يكون معنى الكلام : ما حكمنا بإنزاله في القدر وقضائه وقدّرناه في الأزل ونحو ذلك.
الثاني : أن لفظه لفظ الماضي ومعناه الاستقبال ، أي ينزل جملة في ليلة مباركة هي ليلة القدر ، واختير لفظ الماضي ؛ إمّا لتحققه وكونه لا بدّ منه ؛ وإما لأنه حال اتصاله بالمنزل عليه يكون المضيّ في معناه محققا ؛ لأن نزوله منجّما كان بعد نزوله جملة».
«فإن قلت : ما السرّ في نزوله إلى الأرض منجما؟ وهلاّ نزل جملة كسائر الكتب؟ قلت : هذا سؤال قد تولّى الله سبحانه جوابه ؛ فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (الفرقان : ٣٢) ، يعنون : كما أنزل على من قبله من الرسل. فأجابهم الله [سبحانه] (١) بقوله : [(كَذلِكَ) ، أي] (٢) أنزلناه كذلك مفرقا (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (الفرقان : ٣٢) أي لنقوّي به قلبك ؛ فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب ، وأشدّ عناية بالمرسل إليه ؛ ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه ، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز ، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ؛ ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليهالسلام».
«وقيل : معنى (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) لتحفظه ، فإنه عليهالسلام كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب ؛ ففرّق عليه لييسّر (٣) عليه حفظه ؛ بخلاف غيره من الأنبياء ؛ فإنه كان كاتبا قارئا فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة».
«فإن قلت : كان في القدرة إذا نزل جملة أن يحفظه النبيّ صلىاللهعليهوسلم دفعة ، قلت : ليس كلّ ممكن لازم الوقوع ؛ وأيضا في القرآن أجوبة عن أسئلة ؛ فهو سبب من أسباب تفرق النزول ؛ ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا» (٤).
وقال ابن فورك (٥) : «قيل أنزلت التوراة جملة ، لأنها نزلت على نبيّ يقرأ ويكتب وهو
__________________
(١) ساقطة من المطبوعة.
(٢) ساقطة من المخطوطة.
(٣) في المخطوطة : (ليثبت).
(٤) إلى هنا انتهى كلام أبي شامة في المرشد الوجيز : ٢٥ ـ ٢٩.
(٥) هو محمد بن الحسن بن فورك أبو بكر الأصبهاني ، صاحب التصانيف في الأصول والعلم بلغت مصنّفاته قريبا من مائة مصنّف وكان ذا زهد وعبادة وتوسع في الأدب والوعظ ، والنحو ، مات سنة ٤٠٦ ه (الذهبي ، سير أعلام النبلاء ١٧ / ٢١٥).