ذلك فقد وجد من تحرج من القول بأسباب النزول خوفا من قبول رواية فيها ضعف أو طعن زيادة في الحرج الديني ، فابن سيرين المشهور بتعبير الرؤيا كان عالما بالدين وعلومه وفي نفس الوقت يحدثنا بأنه سأل عبيدة عن آية من القرآن فقال له : (اتق الله ، وقل سدادا ، فقد ذهب الذين يعلمون فيم أنزل القرآن).
هذا التشدد بقبول الروايات المتعلقة بظروف نزول الآيات الكريمة يشبه تشدد من تحرج عن تفسير القرآن الكريم خوفا من الوقوع بالغلط أو الوهم. ويبقى الجمهور الكبير من العلماء مستمرين بالبحث والدراسة والتتبع لمعارف عصرهم المتعلقة بالقرآن الكريم ، ومن بينها أسباب النزول معتمدين على معايير دقيقة هي نفس المعايير التي ترجح قبول رواية على غيرها في التفسير أو الحديث النبوي الشريف مما هو معلوم لدى الباحثين.
وقد أفرد العلماء الروايات المتعلقة بأسباب النزول بمؤلفات سجّلتها المصادر القديمة وقد طبع بعضها. وإذا كان الواحدي قد نال شهرة كبيرة بسبب كتابه «أسباب النزول» فإن مؤلفين كثيرين قد سبقوه في هذا الميدان إلا أنهم لم ينالوا شهرته ، ولم يصلوا شأوه ، لا لأنه فاقهم بمؤلفه المشهور علما ومعرفة بل لأن كتبهم لم تصل إليهم.
والاطلاع على الكتب المؤلفة في هذا الباب تفيدنا في معرفة بداية الكتابة في أسباب النزول وانها كانت منفصلة عن علم التفسير حيث بدأت في مرحلة مبكرة فنجد ابن النديم يشير إلى ان ابن عباس المتوفي سنة ٦٨ أو ٦٩ ه له كتاب في نزول القرآن.
وبمثل هذه التسمية ينسب ابن النديم كتابا للحسن البصري (ت ١١٠ ه) ، وكتب ابن شهاب الزهري محمد بن مسلم (ت ١٢٤ ه) كتاب «تنزيل القرآن».
وفي القرن الثالث نجد للمدائني أبي الحسن علي بن محمد (ت ٢٢٨ ه) كتابا باسم «أسباب النزول» ، وكتب إبراهيم بن محمد بن عاصم بن سعد بن مسعود (ت ٢٨٣ ه) كتابا باسم «ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين علي».
ولم تصل إلينا في علم أسباب النزول مؤلفات لعلماء من القرن الرابع فإذا طلع القرن الخامس واجهتنا جملة منها مثل كتاب عبد الرحمن بن محمد بن فطيس المعروف بابن مطرف (ت ٤٠٢ ه) باسم «أسباب النزول».