بهذا المنطق الزائف وقف الأشعث يخذل الناس عن الإمام علي عليهالسلام ، وكأنَّه يحرضهم على التمرد ، وإلّا ، فمتى أحب الناس البقاء ، وكرهوا القتال؟! وهم منذ أيام يتبادلون الكرَّ والفر مع جيش العدو ، أحينما قضوا ليلتهم تلك في قتال شديد ، وأصبحوا وقد آن لهم أن يحققوا النصر الساحق ، ويقطفوا ثمار ما بذلوا من جهد؟! أم حينما بان الفرع والوهن على جيش الشام ، واقترب من الهزيمة؟!. ولكنَّها الأحقاد الكامنة ، والأطماع بما عند معاوية ، دفعت الرجل لهذا الموقف ، فأجابه الإمام عليهالسلام : «هذا أمرٌ ينظر فيه» ، وقد أثَّر موقف الأشعث في الجيش ، واستجاب له كثيرون ، ونادى الناس من كل جانب : الموادعة (١) ، لقد نادى بهذا النداء من خُدعوا ، فلم يستطيعوا أن يميزوا بين صريح الحق وزيف الباطل ، فأيدوا دعوة الضلال ، وتفرقوا عن سيد الأوصياء ، ومن هنا يتضح وجه الشبه بين موقفه عليهالسلام ، وموقف هارون عليهالسلام ، إذ تفرق عنهما قومهما إثر دعوة ضلال.
وجد الإمام علي عليهالسلام نفسه أمام وضع محيِّر ، فحاول أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه ، فخاطب القوم ، وهو يسدي لهم النصح ، ويضع أمامهم الحقائق ، قائلاً : «عباد الله ... إنّي أحق من أجاب إلى كتاب الله ، ولكن معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ، ولا قرآن. إنّي أعرَف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، ورجالاً ، فكانوا شر أطفال ، وشر رجال.
إنَّها كلمة حق يراد بها باطل ، إنَّهم والله ما رفعوها أنَّهم يعرفونها ، ويعملون بها ، ولكنَّها الخديعة ، والوهن ، والمكيدة .. أعيروني سواعدكم ، وجماجمكم ساعة واحدة ، فقد بلغ الحق مقطعه ، ولم يبق إلّا أن يقطع دابر الذين ظلموا». فجاءه زهاء
__________________
(١) راجع شرح نهج البلاغة ٢ / ٢١٦.