فالآية لم تخاطب جسد الإنسان وأعضاءه كما ترى ، بل واقعه وحقيقته التي يعبِّر عنها الذكر الحكيم بالنفس ، واختار من بين النفوس الكثيرة النفس المطمئنة وهي التي تسكن إلى ربِّها ، وترضى بما رضي به لها ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ ، أو نفعٍ أو ضرّ.
ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر ، أو أيّ نفع وضرٍّ ابتلاءً وامتحاناً إلهياً ؛ فلا يدعوه تواترُ النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد ، والعلوّ والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر.
ثمّ يخاطبها بخطاب آخر ويقول : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، وظرف الخطابين من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد ، ثمّ يخاطبها بخطاب ثالث ورابع ويقول: (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) وهما تفريعان على الخطاب الثاني الماضي أعني : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ...) وقوله : (فِي عِبادِي) يدلّ على أنّها حائزة مقام العبودية وفي قوله : (جَنَّتِي) تعيين لمستقرّها وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلّم ، تعريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى وتقدّس إلّا في هذه الآية (١).
والمخاطب في هذه الخطابات الأربعة ، ليس جسده البارد الذي صار بالموت بمنزلة الجماد ، ولا عظامه الرميمة الدفينة في طبقات الثرى ، بل نفسه وروحه الباقية غير الداثرة.
ولو خُصَّ ظرف الخطاب بيوم البعث من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة ، لما ضرّ بالاستدلال وإن كان على الوجه الأوّل أظهر.
والحاصل : فسواء قلنا بأنّ ظرف الخطاب هو زمان الموت أو زمان البعث ،
__________________
(١) تفسير الميزان ٢٠ : ٢١٣ ؛ مجمع البيان ٥ : ٤٨٩.