والنافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الإنسان وضلاله في الأرض بحيث لا يبقى شيء من بعد ذلك إلّا الذرّات المادية المبعثرة في الأرض ، ولهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية ؛ إذ ليس هناك شيء متوسط بين المبتدأ والمعاد.
ولهذا جاء الوحي يندد بتلك الفكرة ويفنِّد دليلهم المبني على قولهم : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فردّهم بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١).
وتوضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالاً في الأرض وأنّ شخصية الإنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب ، وإنّما الضال في الأرض هو أجزاء البدن المادّي ، فهذه الأجزاء هي التي تتبعثر في الأجواء والأرض ، ولكن هذه لا تشكّل شخصية الإنسان ، بل شخصيته شيء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت ، وهو عند الله محفوظ ، كما يقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فإذاً لا معنى للتوفّي إلّا الأخذ وهو أخذ الأرواح والأنفس ونزعها من الأبدان وحفظها عند الله.
وهناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح وأنّه ليس بمعنى الموت والفناء ، بل الأخذ والقبض أي قبض شيء موجود وأخذ شيء واقعي ، يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢) فمفاد الآية أنّ الله يقبض الأنفس ويأخذها في مرحلتين : حين الموت وحين النوم ، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها ، ولم يردّها إلى الجسد ، وما لم يقض
__________________
(١) السجدة : ١٠ ـ ١١.
(٢) الزمر : ٤٢.