بالمشورة كان لأجل أن يصل (ص) بما يظهر منهم ممّا تكنّه صدورهم ، وتنطوي عليه قلوبهم ، فإنّ الناصح تظهر نصيحته في مشورته ، كما أنّ الغاش يظهر غشّه في مقاله ، لا سيما إذا لاحظتم أنّ في الأمّة من يتربص به الدوائر ، ويبتغي له الغوائل ، ويكتم خلافه ، ويبطن بغضه (ص) ، ولم يعرفهم بأشخاصهم ، ولا دله تعالى عليهم بأسمائهم ، فقال تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٤ : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ) وقد تقدم ما تلوناه عليكم من قوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) وقال تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ، وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) وقال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ، فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فدلّه تعالى عليهم بمقالهم ، وجعل الطريق له إلى معرفتهم ، ما يظهر من خلافهم في لحن قولهم.
وهكذا جعل مشورتهم طريقا إلى معرفة باطنهم ، لا لأنّهم مجتهدون مصيبون في مشورتهم كما توهمه هذا المستدل ، فإنّ ذلك لا يمكن نسبته إلى النبي (ص) العظيم في شخصه ، وعقله ، وتدبيره ، وفهمه ، وعلمه (ص) بكل المصالح والمفاسد ، بالوحي المتتالي نزوله عليه من الله العليم الحكيم.
ألا ترون إليهم لما أشاروا عليه ب (بدر) في الأسرى فكشفت مشورتهم عن نيّاتهم الشائنة ، فذمّهم الله تعالى عليه بقوله تعالى في سورة الأنفال آية ٦٧ : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا ، وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فوجّه تعالى التوبيخ إليهم ، وعنّفهم على رأيهم ، إلى غير ما هنالك من موارد إشارتهم عليه (ص) ، وإدغالهم فيه.