بلى إنّ الأشتر ليرضى إذا رضيت ، وقد رضيت ورضيتم ، ولا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلاّ أن يعصى الله ويتعدّى ما فيه كتابه.
فلمّا رآى علي عليهالسلام تكرّر تلك المواقف قام خطيباً ليزيل الشكوك والأوهام عن قلوب شيعته فخطب وقال : « إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحق ، ولاليجيبوا إلى كلمة السواء ، حتى يُرْمَوا بالمناسر ، تتبعها العساكر ، وحتى يُرجَموا بالكتائب تقفوها الجلائب ، وحتى يجر ببلادهم الخميس ، يتلوه الخميس ، وحتى يدعوا الخيل في نواحي أرضهم ، وبأحناء مساربهم ومسارحهم وحتى تشن عليهم الغارات من كل فج ، وحتى يلقاهم قوم صُدُق صُبُر ، لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلاّ جداً في طاعة الله ، وحرصاً على لقاء الله ، ولقد كنّا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومُضيّاً على اللقم وصبراً على مضَضَ الألم ، وجداً في جهاد العدو ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان متصاول الفحلين ، يتخالسان أنفسهما أيَّهما يسقي صاحبه كأس المنون مرّة لنا من عدوّنا ومرة لعدّونا منّا ، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتى استقّر الإسلام ملقياً جِرَآنه ، ومتبوَّئاً أو طانه ، ولعمري لوكنّا نأتي ما أتيتم ، ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للإيمان عود ، وايم الله لتحتلبنّها دماً ولتُتَبِعنَّها ندماً (١).
وقد أعرب الإمام في خطبته هذه عن السبب الحقيقي للفصل والوهن الذي واجه جيشه مع كثرة عددهم وعدّتهم ، وما هذا إلاّ لأنّهم عصوا إمامهم ، واغترّوا بظواهر الاُمور ، وحسبوا أنّ اللجوء إلى كتاب الله شيء يدين به الخصم ،
__________________
١ ـ الرضي : نهج البلاغة ، الخطبة ٥٦. نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٩٧ ـ ٥٩٨ وبين المنقول في المصدرين اختلاف في اللفظ ، ورجحّنا نقل الرضي.