فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم ، وذكر صفة العدل في ذلك بأنه العزيز الغالب. وقوله : (الْحَكِيمُ) الذي يضع الأشياء مواضعها فلا يعترض عليه إن عفا عمّن يستحق العقوبة.
وقيل : ليس هو على مسألة الغفران وإنما هو على معنى تسليم الأمر إلى من هو أملك لهم ، ولو قيل : «فإنك أنت الغفور الرحيم» لأوهم الدعاء بالمغفرة. ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه ، لا لنبي (١) ولا لغيره. وأما قوله : (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) وهم عباده ؛ عذّبهم أو لم يعذّبهم ؛ فلأنّ المعنى إن تعذّبهم تعذّب من العادة أن تحكم عليه وذكر العبودية التي هي سبب القدرة كقول رؤبة (٢) :
يا رب إن أخطأت أو نسيت |
|
فأنت لا تنسى ولا تموت |
والله لا يضلّ ولا ينسى ولا يموت ، أخطأ رؤبة أو أصاب ، فكأنه قال : إن أخطأت تجاوزت لضعفي وقوتك ، ونقصي وكمالك.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة براءة : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : ٧١) ـ والجواب ما ذكرناه.
ومنه (٣) قوله تعالى في سورة الممتحنة : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الآية : ٥).
ومثله في سورة غافر في قول السادة الملائكة : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الآية : ٨).
ومنه قوله تعالى : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ* وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور : ٩ و ١٠) ؛ فإنّ الذي يظهر في أول النظر أنّ الفاصلة «تواب رحيم» ، لأن الرّحمة مناسبة للتوبة ، وخصوصا من هذا الذنب العظيم ؛ ولكن
__________________
(١) في المخطوطة : (لنهي).
(٢) هو رؤبة بن العجاج بن شدقم الباهلي الشاعر الأموي ، أنشد له أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب. (المرزباني ، معجم الشعراء ص : ١٢١). والبيت في ديوانه ص ٢٥ ، وهو مطلع أرجوزة يمدح فيها سليمان بن عبد الملك.
(٣) في المطبوعة : (ومثله).