حَلِيماً غَفُوراً) (الإسراء : ٤٤) فإن قيل : ما وجه الختام بالحلم والمغفرة عقيب تسابيح الأشياء وتنزيهها؟ أجاب صاحب «الفنون» (١) بثلاثة أوجه :
أحدها : إن فسّرنا التسبيح على ما درج في الأشياء من العبر ؛ وأنها مسبّحات بمعنى مودعات من دلائل العبر ودقائق الإنعامات والحكم ما يوجب تسبيح المعتبر المتأمّل ؛ فكأنه سبحانه يقول : إنه كان من كبير إغفالكم النظر في دلائل العبر مع امتلاء الأشياء بذلك. وموضع العتب قوله [تعالى] : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (يوسف : ١٠٥) ؛ كذلك موضع المعتبة قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء : ٤٤) وقد كان ينبغي أن يعرفوا بالتأمّل [ما] (٢) يوجب القربة لله ؛ مما أودع مخلوقاته (٣) [بما يوجب تنزيهه] (٣) ؛ فهذا موضع حلم وغفران عمّا جرى في ذلك من الإفراط والإهمال.
الثاني : إن جعلنا التسبيح حقيقة في الحيوانات بلغاتها فمعناه : الأشياء كلّها تسبّحه وتحمده ، ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ، فالحلم والغفران للتقدير (٤) في الآية ؛ وهو العصيان. وفي الحديث : «لو لا بهائم رتّع ، وشيوخ ركّع ، وأطفال رضّع ، لصبّ عليكم العذاب صبّا» (٥).
الثالث : أنه [سبحانه] قال في أولها : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ
__________________
(١) كتاب «فنون الأفنان» وهو للإمام عبد الرحمن بن علي بن محمد ، أبو الفرج ابن الجوزي ، المحدث الحافظ المفسّر الفقيه الواعظ المؤرخ المشارك في أنواع أخرى من العلوم ولد ببغداد سنة (٥١٠) من مؤلفاته الكثيرة «المغني في علوم القرآن» و «تذكرة الأريب» و «المنتظم ، في تاريخ الملوك» توفي سنة (٥٩٧). (أبو الفرج ، الذيل على طبقات الحنابلة ١ / ٣٩٩). وكتابه «فنون الأفنان في عيون علوم القرآن» طبع بتحقيق أحمد الشرقاوي ، وإقبال المراكشي في الدار البيضاء ، ط ١ ، عام ١٩٧٠ م. وقام بتحقيقه نادر النوري ، كرسالة دكتوراه في الكويت عام ١٩٨٦ م. وحققه د. حسن ضياء الدين عتر ، وطبع بدار البشائر الإسلامية في بيروت عام ١٤٠٨ ه / ١٩٨٧ م وليس قوله في الكتاب. وانظر زاد المسير ٥ / ٣٩ ـ ٤٠.
(٢) ساقطة من المخطوطة ، وهي من المطبوعة.
(٣) ما بين الحاصرتين ساقط من المخطوطة ، وهو من المطبوعة.
(٤) في المخطوطة : (للمقدور).
(٥) الحديث أخرجه الطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي عبيدة الدئلي ٢٢ / ٣٠٩ الحديث (٨٧٥) وأخرجه ابن عدي الجرجاني في الكامل في ضعفاء الرجال من رواية ابن عبيدة الدئلي ٤ / ١٦٢٢ ، وأخرجه البيهقي في