بحرا. قيل : ومنه قول سعد بن عبادة في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول : «ولقد أجمع أهل هذه البحرة على أن يتوّجوه». يعني بالبحرة : مدينة يثرب وفيه بعد. وكأنّ الذي دعا إلى سلوك هذا الوجه في إطلاق البحر أنه لم يعرف أنه حدث اختلال في سير الناس في البحر وقلة فيما يخرج منه. وقد ذكر أهل السير أنّ قريشا أصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعظام ، ولم يذكروا أنهم تعطلت أسفارهم في البحر ولا انقطعت عنهم حيتان البحر ، على أنهم ما كانوا يعرفون بالاقتيات من الحيتان.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة يكون الباء في قوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) للعوض ، أي جزاء لهم بأعمالهم ، كالباء في قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ، ويكون اللام في قوله (لِيُذِيقَهُمْ) على حقيقة معنى التعليل.
ويجوز أن يكون المراد بالفساد : الشرك قاله قتادة والسدّي فتكون هذه الآية متصلة بقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) إلى قوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [الروم : ٤٠] ، فتكون الجملة إتماما للاستدلال على وحدانية الله تعالى تنبيها على أن الله خلق العالم سالما من الإشراك وأن الإشراك ظهر بما كسبت أيدي الناس من صنيعهم. وهذا معنى قوله في الحديث القدسي في «صحيح مسلم» : «إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم ، وأنهم أتتهم الشياطين فأجالتهم عن دينهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي» الحديث.
فذكر البر والبحر لتعميم الجهات بمعنى : ظهر الفساد في جميع الأقطار الواقعة في البر والواقعة في الجزائر والشطوط ، ويكون الباء في قوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) للسببية ، ويكون اللام في قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) لام العاقبة ، والمعنى : فأذقناهم بعض الذي عملوا ، فجعلت لام العاقبة في موضع الفاء كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، أي فأذقنا الذين أشركوا بعض ما استحقوه من العذاب لشركهم. ويجوز أن يكون المعنى أن الله تعالى خلق العالم على نظام محكم ملائم صالح للناس فأحدث الإنسان فيه أعمالا سيئة مفسدة ، فكانت وشائج لأمثالها :
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة
فأخذ الاختلال يتطرق إلى نظام العالم قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦] ،