في التنديم على ما حلّ بالمكذبين المخاطبين من ضرّ ليعلموا أن ذلك عقاب من الله تعالى فيقلعوا عنه خشية أن يحيط بهم ما هو أشد منه ، كما يؤذن به قوله عقب ذلك (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). فالإتيان بلفظ الناس في قوله (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) إظهار في مقام الإضمار لزيادة إيضاح المقصود ، ومقتضى الظاهر أن يقال «بما كسبت أيديهم». فالآية تشير إلى مصائب نزلت ببلاد المشركين وعطلت منافعها ، ولعلها مما نشأ عن الحرب بين الروم وفارس ، وكان العرب منقسمين بين أنصار هؤلاء وأنصار أولئك ، فكان من جراء ذلك أن انقطعت سبل الأسفار في البر والبحر فتعطلت التجارة وقلّت الأقوات بمكة والحجاز كما يقتضيه سوق هذه الموعظة في هذه السورة المفتتحة ب (غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ٢].
فموقع هذه الجملة على هذا الوجه موقع الاستئناف البياني لسبب مسّ الضر إياهم حتى لجئوا إلى الضراعة إلى الله ، وما بينها وبين جملة (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) [الروم : ٣٣] إلى آخره اعتراض واستطراد تخلل في الاعتراض. ويجوز أن يكون موقعها موقع الاعتراض بين ذكر ابتهال الناس إلى الله إذا أحاط بهم ضر ثم إعراضهم عن عبادته إذا أذاقهم منه رحمة وبين ذكر ما حلّ بالأمم الماضية اعتراضا ينبئ أن الفساد الذي يظهر في العالم ما هو إلا من جراء اكتساب الناس وأن لو استقاموا لكان حالهم على صلاح.
و (الْفَسادُ) : سوء الحال ، وهو ضد الصلاح ، ودل قوله : (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) على أنه سوء الأحوال في ما ينتفع به الناس من خيرات الأرض برها وبحرها. ثم التعريف في (الْفَسادُ) : إما أن يكون تعريف العهد لفساد معهود لدى المخاطبين ، وإما أن يكون تعريف الجنس الشامل لكل فساد ظهر في الأرض برّها وبحرها أنه فساد في أحوال البر والبحر ، لا في أعمال الناس بدليل قوله (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
وفساد البر يكون بفقدان منافعه وحدوث مضارّه ، مثل حبس الأقوات من الزرع والثمار والكلأ ، وفي موتان الحيوان المنتفع به ، وفي انتقال الوحوش التي تصاد من جراء قحط الأرض إلى أرضين أخرى ، وفي حدوث الجوائح من جراد وحشرات وأمراض.
وفساد البحر كذلك يظهر في تعطيل منافعه من قلّة الحيتان واللؤلؤ والمرجان فقد كانا من أعظم موارد بلاد العرب وكثرة الزوابع الحائلة عن الأسفار في البحر ، ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس. وقيل : أريد بالبر البوادي وأهل الغمور وبالبحر المدن والقرى ، وهو عن مجاهد وعكرمة وقال : إن العرب تسمي الأمصار