والكريم : النفيس في نوعه ، وتقدم عند قوله تعالى (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].
وقد أدمج في أثناء دلائل صفة الحكمة الامتنان بما في ذلك من منافع للخلق بقوله (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) فإن من الدواب المبثوثة ما ينتفع به الناس من أكل لحوم أوانسها ووحوشها والانتفاع بألبانها وأصوافها وجلودها وقرونها وأسنانها والحمل عليها والتجمل بها في مرابطها وغدوّها ورواحها ، ثم من نعمة منافع النبات من الحب والثمر والكلأ والكمأة. وإذ كانت البحار من جملة الأرض فقد شمل الانتفاع بدواب البحر فالله كما أبدع الصنع أسبغ النعمة فأرانا آثار الحكمة والرحمة.
وجملة (هذا خَلْقُ اللهِ) إلى آخرها نتيجة الاستدلال بخلق السماء والأرض والجبال والدواب وإنزال المطر. واسم الإشارة إلى ما تضمنه قوله (خَلَقَ السَّماواتِ) إلى قوله (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). والإتيان به مفردا بتأويل المذكور. والانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله (خَلْقُ اللهِ) التفاتا لزيادة التصريح بأن الخطاب وارد من جانب الله بقرينة قوله (هذا خَلْقُ اللهِ) وكذلك يكون الانتقال من التكلم إلى الغيبة في قوله (ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) التفاتا لمراعاة العود إلى الغيبة في قوله (خَلْقُ اللهِ). ويجوز أن تكون الرؤية من قوله (فَأَرُونِي) علمية ، أي فأنبئوني ، والفعل معلقا عن العمل بالاستفهام ب (ما ذا). فيتعين أن يكون (فَأَرُونِي) تهكما لأنهم لا يمكن لهم أن يكافحوا الله زيادة على كون الأمر مستعملا في التعجيز ، لكن التهكم أسبق للقطع بأنهم لا يتمكنون من مكافحة الله قبل أن يقطعوا بعجزهم عن تعيين مخلوق خلقه من دون الله قطعا نظريا.
وصوغ أمر التعجيز من مادة الرؤية البصرية أشد في التعجيز لاقتضائها الاقتناع منهم بأن يحضروا شيئا يدّعون أن آلهتهم خلقته. وهذا كقول حطائط بن يعفر النهشلي (١) وقيل حاتم الطائي :
أريني جوادا مات هزلا (٢) لعلني |
|
أرى ما تزين أو بخيلا مخلّدا |
أي : أحضرني جوادا مات من الهزال وأرينيه لعلي أرى مثل ما رأيتيه.
والعرب يقصدون في مثل هذا الغرض الرؤية البصرية ، ولذلك يكثر أن يقول : ما
__________________
(١) حطائط بضم الحاء : القصير
(٢) هزلا بفتح الهاء : الهزال