إنما كان من حيث انه إبراء ، والإبراء لازم لا رجوع فيه اتفاقا ، وظاهر الأصحاب أنه لا ينحصر في لفظ ، بل كلما أدى هذا المعنى من لفظ الإبراء أو العفو أو الهبة أو الإسقاط أو نحو ذلك ، فإنه تحصل به البراءة وفراغ الذمة وقد أطلق عليه لفظ العفو في قوله عزوجل (١) «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» وحيث ان الأصحاب قد اختلفوا في أن الإبراء هل يتوقف صحته على القبول أم لا؟ والهبة هنا في معنى الإبراء كما عرفت ، اختلفوا في اشتراط القبول فيها ، فكل من أوجبه ثمة أوجبه هنا ومن لا فلا ، والمشهور بين الأصحاب العدم ، ونقل في المختلف القول بالاشتراط عن الشيخ في المبسوط وابن زهرة وابن إدريس ، قال : قال الشيخ في المبسوط : قال قوم من شرط صحته قبوله ، وما لم يقبل فالحق ثابت بحاله ، وهو الذي يقوي في نفسي ، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ذكر أن كلام الشيخ في المبسوط هنا مختلف ، ففي أول المسئلة قواه ، وفي آخره قوى القول الآخر قال : فإطلاق جماعة نسبة القول باشتراطه اليه ليس بجيد.
احتج القائلون بعدم الاشتراط بالأصل ، وبأنه إسقاط لا نقل شيء إلى الملك فهو بمنزلة تحرير العبد.
أقول : ويدل عليه ظاهر قوله عزوجل «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» حيث اكتفى في سقوط الحق بمجرد العفو ، والقبول غير داخل في مسماه قطعا ، واستدل أيضا على ذلك بقوله عزوجل (٣) «فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ» حيث اعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القول وقوله تعالى (٤) : «وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» فأسقط الدية بمجرد الصدقة ولم يعتبر القبول ، والمراد بالصدقة في الآيتين الإبراء.
__________________
(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٣٧.
(٣) سورة البقرة ـ الاية ٢٨٠.
(٤) سورة النساء ـ الاية ٩٢.