وتحرّى سبل الرشاد ، فسلكها غير مكترث ولا هيّاب لما يواجهه من مخاطر وصعوبات ، لأنَّه يبذل نفسه في طاعة الله تعالى ، وتهون لديه الحياة ، فيضحي من أجل عقيدته ، وينتظر الشهادة بشوق ولهفة.
يشق صوته هدوء الليل في الأسحار ، وهو يناجي ربه ، فيمزج مناجاته بمخاطبة الدنيا : «غري غيري» ، بينما يتكالب غيره على الدنيا ، فيضحي بدينه للنيل من نعيمها الزائل ، والتمتع بملذاتها الفانية التي لا يرى الإمام علي عليهالسلام لها قيمة ، ولا يقيم لها وزناً ، متبعاً في ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، الذي كان مثله الأعلى ، وقدوته الحسنة ، لم يعمر دنياه على حساب آخرته ، بل عاش ببساطة ، يواسي الفقراء ، ويعطف عليهم ، مترفعاً عن مظاهر الترف ، فلم يسكن قصر الإمارة عندما تولّى الخلافة في الكوفة ، بل سكن دار ابن أخته جعدة بن هبيرة ، تواضعاً ومواساة للمعوزين.
قال عليهالسلام ـ وهو يفصح عمّا انطوت عليه سيرته ـ في رسالته إلى عثمان بن حنيف واليه على البصرة : «ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ، فوَالله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ، ولا أعددت لبالي ثوبيّ طمرا ، ولا حزت من أرضها شبرا» (١).
وقال عبد الله بن عباس : دخلت على أمير المؤمنين عليهالسلام بذي قار ـ وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل؟. فقلت : لا قيمة لها. فقال عليهالسلام : والله لهي أحب إلي من إمرتكم ، إلّا أن أقيم حقّاً ، أو أدفع باطلاً.
فمن كانت هذه سيرته ، وهذه نظرته إلى الدنيا ، ثمَّ إلى الخلافة ما لم يتوفر في
__________________
(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.