هذه الحياة ، يقدِّمه على كل اعتبار ، يكتسب بذلك رضاه ، فتشمله رحمته ، ويعزه ، وبديهي أنَّ كل من اعتز بغير الله تعالى ذلَّ ، لأن فاقد الشي لا يعطيه ، «ومن أراد عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فليخرج من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته».
إتَّسمت السيرة العملية للإمام علي عليهالسلام طيلة حياته بالإخلاص لله تعالى ، والإعتصام به من خلال تطبيق أحكامه ، واتباع سيرة الرسول المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأعزه الله عزوجل ، ورفعه إلى درجة اعترف ببلوغه لها محبوه ومبغضوه ، فغبطه عليها قوم ، وحسده آخرون ، ولم ينل ذلك إلّا بالطاعة والإخلاص لله تعالى.
آثر الآخرة ، ففضلها ، وقدمها على هذه الدنيا الفانية ، وأجهد نفسه ، وثابر في العمل ، وضحى من أجل ذلك بكل غالٍ ونفيس ، مبتغياً مرضاة الله تعالى ، منتظراً ما يأمله المؤمنون من رضوانه في الآخرة.
والدنيا بنظره ليست الغاية ، بل هي الطريق إلى الحياة الدائمة في الآخرة ، والوسيلة لنيل السعادة فيها ، يقول عليهالسلام : «أيّها الناس إنَّما الدنيا دار مجاز ، والآخرة دار قرار ، فخذوا من ممرِّكم لمقرِّكم ، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم ، وأخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم ، ففيها اختبرتم ، ولغيرها خلقتم.
إنَّ المرء إذا هلك قال الناس : ما ترك؟. وقالت الملائكة : ما قدَّم؟. لله آباؤكم ، فقدموا بعضاً يكن لكم قرضاً ، ولا تخلِّفوا كلاً فيكون فرضاً عليكم» (١).
ويقول : «أمّا بعد ، فإنَّ الدنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، وإنَّ الآخرة قد أقبلت ، وأشرفت باطِّلاع ، ألا وإنَّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيَّته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟.
__________________
(١) نهج البلاغة ٢ / ١٨٣.