وما إن حان الموعد الذي اتفقوا عليه ، واقتحموا الدار لينفّذوا جريمتهم التي خططوا لها ، نهض بوجههم الإمام علي عليهالسلام كما ينتفض الأسد من عرينه ، فأذهلهم الموقف ، وشعروا بالخيبة ، وكما حفظ الله تعالى إسماعيل عليهالسلام من الذبح ، فلم تؤثر فيه مدية أبيه ، فقد حفظ علياً عليهالسلام من كيد المشركين ، فذهلوا عن إنزال الأذى به.
بقي الإمام علي عليهالسلام في مكة المكرمة ثلاثاً ، أدى فيها ما كلفه به الرسول المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأوصل الأمانات إلى أهلها ، ورعى عائلته ثم غادر بها مكة المكرمة ، ليلحق بركبه المتجه نحو المدينة المنورة.
وإذا كان هذا الموقف قد جسّد مظهراً من مظاهر تضحية الإمام علي عليهالسلام التي تنم عن رسوخ عقيدته ، وكمال إيمانه ، وطاعته لله تعالى ، وهو يمثل الإستسلام والإنقياد التام ، لأمر الله تعالى ، وأمر رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم دون اكتراث بالمخاطر ، بل ببذل النفس في سبيل الله تعالى.
شكر الله تعالى سعي الإمام علي عليهالسلام وبذله ، فأنزل فيه قرآناً يتلوه المؤمنون جيلاً بعد جيل ، يبين فيه فضله ، قال عزوجل : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)(١) ، يقول الإسكافي في رده على الجاحظ ما نصه : (وقد روى المفسرون كلهم أنَّ قول الله تعالى : * (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ)* اُنزلت في علي عليهالسلام ليلة المبيت على الفراش) (٢).
وروى الحاكم الحسكاني بإسناده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : (لما أُسري بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يريد بالغار ـ بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأوحى الله إلى جبرائيل وميكائيل : إنّي قد آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما
__________________
(١) البقرة ٢ : ٢٠٧.
(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦٢.