إنّ القوم لم يكونوا أهل فكر واجتهاد ، وماكانوا يصدرون عن مبدأ عقلي في المواقف الصعبة والحَرِجةِ ، فكما أنّهم اغتّروا برفع المصاحف على الأسنّة ، اغترّ الكثير برأي بعض القرّاء حيث ردّ التحكيم بقوله سبحانه : ( اَن الحُكْم إلاّ لِلّه ).
قال ابن مزاحم : إنّ الأشعث خرج في الناس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه عليهم ويمرّ به على صفوف أهل الشام ، وراياتهم ، حتى مرّ برايات عنزة فقرأه عليهم. قال فتيان منهم : لا حكم إلاّ لله ، ثمّ حملا على أهل الشام بسيوفهما (فقاتلا) حتى قتلا على باب رواق معاوية ، وهما أوّل من حكم (أي أنكر مبدأ التحكيم) ثم مرّ بها على مراد فقال صالح بن شقيق وكان من رؤسائهم :
ما لعلي في الدماء قد حكم |
|
لو قاتل الأحزاب يوماً ما ظلم |
لا حكم إلاّ لله ولو كره المشركون.
ثمّ مرّ على رايات بني راسب فقرأها عليهم ، فقالوا : لا حكم إلاّ لله ولا نرضى ولا نحكّم الرجال في دين الله ، ثم مرّ على رايات بني تميم فقرأها عليهم ، فقال رجل منهم : « لا حكم إلاّ لله ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » وخرج عروة بن اُديَّة فقال : أتحكّمون الرجال في أمر الله؟ لا حكم إلاّ لله : فأين قتلانا يا أشعث؟ (١).
فزعموا أوّلا : أنّ حكم الله مضى في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أويدخلوا في حكمهم وانّ إيقاف الحرب والتنازل إلى الموادعة خلاف حكم الله
__________________
١ ـ نصر بن مزاحم : وقعة صفّين ٥٥٨. وجاء في ذيل كلامه انّ هؤلاء المخالفين أوبعضهم كانوا من المصرّين على التحكيم في بدء الأمر وانّما رجعوا عن فكرتهم عند عرض الكتاب.