ملابسين لنعمة الله عليهم بالسلامة إلا في أحوال نادرة ، وقد سميت هذه النعمة أمرا في قوله (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) في سورة الحج [٦٥] ، أي : بتقديره ونظام خلقه.
وتقدم تفصيله في قوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) في سورة العنكبوت [٦٥] ، وفي قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآيات من سورة يونس [٢٢] وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) في سورة الحج [٦٥].
ويتعلق (لِيُرِيَكُمْ) ب (تَجْرِي) أي : تجري في البحر جريا ، علة خلقه أن يريكم الله بعض آياته ، أي : آياته لكم فلم يذكر متعلق الآيات لظهوره من قوله (لِيُرِيَكُمْ) وجري الفلك في البحر آية من آيات القدرة في بديع الصنع أن خلق ماء البحر بنظام ، وخلق الخشب بنظام ، وجعل لعقول الناس نظاما فحصل من ذلك كله إمكان سير الفلك فوق عباب البحر. والمعنى : أن جري السفن فيه حكم كثيرة مقصودة من تسخيره ، منها أن يكون آية للناس على وجود الصانع ووحدانيته وعلمه وقدرته. وليس يلزم من لام التعليل انحصار الغرض من المعلّل في مدخولها لأن العلل جزئية لا كلية.
وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) لها موقع التعليل لجملة (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ). ولها موقع الاستئناف البياني إذ يخطر ببال السامع أن يسأل : كيف لم يهتد المشركون بهذه الآيات؟ فأفيد أن الذي ينتفع بدلالتها على مدلولها هو (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ، ثناء على هذا الفريق صريحا ، وتعريضا بالذين لم ينتفعوا بدلالتها. واقتران الجملة بحرف (أَنَ) لأنه يفيد في مثل هذا المقام معنى التعليل والتسبب. وجعل ذلك عدة آيات لأن في ذلك دلائل كثيرة ، أي : الذين لا يفارقهم الوصفان.
والصبّار : مبالغة في الموصوف بالصبر ، والشّكور كذلك ، أي : الذين لا يفارقهم الوصفان. وهذان وصفان للمؤمنين الموحّدين في الصبر للضراء والشكر للسراء إذ يرجون بهما رضى الله تعالى الذي لا يتوكلون إلا عليه في كشف الضر والزيادة من الخير. وقد تخلقوا بذلك بما سمعوا من الترغيب في الوصفين والتحذير من ضديهما قال : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧] ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] فهم بين رجاء الثواب وخوف العقاب لأنهم آمنوا بالحياة الخالدة ذات الجزاء وعلموا أن مصيرهم إلى الله الذي أمر ونهى ، فصارا لهم خلقا تطبعوا عليه فلم يفارقاهم البتة أو إلا نادرا ؛ فأما المشركون فنظرهم قاصر على الحياة الحاضرة فهم أسراء العالم الحسيّ فإذا أصابهم ضر ضجروا وإذا أصابهم نفع بطروا ، فهم أخلياء من الصبر والشكر ، فلذلك كان