وقوعه. ويشمل المراد أيضا كلّ من كان يعد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلا ، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم ، ومن أهل الأمم الأخرى ، ومن الروم أنفسهم ، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة ب (أَكْثَرَ النَّاسِ) بصيغة التفضيل. والتعريف في (النَّاسِ) للاستغراق.
ومفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف دل عليه قوله (سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ٣ ، ٤]. فالتقدير : لا يعلمون هذا الغلب القريب العجيب. ويجوز أن يكون المراد تنزيل الفعل منزلة اللازم بأن نزلوا منزلة من لا علم عندهم أصلا لأنهم لما لم يصلوا إلى إدراك الأمور الدقيقة وفهم الدلائل القياسية كان ما عندهم من بعض العلم شبيها بالعدم إذ لم يبلغوا به الكمال الذي بلغه الراسخون أهل النظر ، فيكون في ذلك مبالغة في تجهيلهم وهو مما يقتضيه المقام.
ولما كان في أسباب تكذيبهم الوعد بانتصار الروم على الفرس بعد بضع سنين أنهم يعدون ذلك محالا ، وكان عدهم إياهم كذلك من التباس الاستبعاد العادي بالمحال ، مع الغفلة عن المقادير النادرة التي يقدرها الله تعالى ويقدر لها أسبابا ليست في الحسبان فتأتي على حسب ما جرى به قدره لا على حسب ما يقدره الناس ، وكان من حق العاقل أن يفرض الاحتمالات كلّها وينظر فيها بالسبر والتقييم ، أنحى الله ذلك عليهم بأن أعقب إخباره عن انتفاء علمهم صدق وعد القرآن ، بأن وصف حالة علمهم كلّها بأن قصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي وهي المحسوسات والمجريات والأمارات ، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر.
والوجه أن تكون (مِنَ) في قوله (مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تبعيضية ، أي يعلمون ظواهر ما في الدنيا ، أي ولا يعلمون دقائقها وهي العلوم الحقيقية وكلها حاصلة في الدنيا. وبهذا الاعتبار كانت الدنيا مزرعة الآخرة.
والكلام يشعر بذم حالهم ، ومحطّ الذم هو جملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ). فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة لأن المؤمنين كانوا أيضا يعلمون ظاهر الحياة الدنيا ، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالما آخر هو عالم الغيب. وقد اقتصر في تجهيلهم بعالم الغيب على تجهيلهم بوجود الحياة الآخرة اقتصارا بديعا حصل به التخلص من غرض الوعد بنصر الروم إلى غرض أهم وهو إثبات البعث مع أنه يستلزم إثبات عالم الغيب ويكون مثالا لجهلهم بعالم