فرقهم ومواطنهم بعد سيل العرم وانقسموا أقواما جددا ولم يأتهم نذير منذ ذلك الزمن وإن كان المنذرون قد جاءوا أسلافهم مثل هود وصالح وتبع ، فذلك كان قبل تقوّم قوميتهم الجديدة.
وإما أن يكون المراد العرب كلّهم بما يشمل أهل اليمن واليمامة والبحرين وغيرهم ممن شملتهم جزيرة العرب وكلّهم لا يعدون أن يرجعوا إلى ذينك الجذمين ، وقد كان انقسامهم أقواما ومواطن بعد سيل العرم ولم يأتهم نذير بعد ذلك الانقسام كما تقدم في حال القحطانيين من أهل الحجاز. وأما ما ورد من ذكر حنظلة بن صفوان صاحب أهل الرّسّ ، وخالد بن سنان صاحب بني عبس فلم يثبت أنهما رسولان واختلف في نبوّتهما. وقد روي أن ابنة خالد بن سنان وفدت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهي عجوز وأنه قال لها : «مرحبا بابنة نبيء ضيّعه قومه». وليس لذلك سند صحيح. وأيّا ما كان فالعرب كلهم أو الذين شملتهم دعوة الإسلام يومئذ يحق عليهم وصف (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) من وقت تحقق قوميتهم.
والمقصود به : تذكيرهم بأنهم أحوج الأقوام إلى نذير ، إذ لم يكونوا على بقية من هدى وأثارة هممهم لاغتباط أهل الكتاب ليتقبلوا الكتاب الذي أنزل إليهم ويسبقوا أهل الكتاب إلى اتّباعه ؛ فيكون للمؤمنين منه السبق في الشرع الأخير كما كان لمن لم يسلم من أهل الكتاب السبق ببعض الاهتداء وممارسة الكتاب السابق. وقد اهتم بعض أهل الأحلام من العرب بتطلب الدين الحق فتهوّد كثير من عرب اليمن ، وتنصّرت طيئ وكلب وتغلب وغيرهم من نصارى العرب ، وتتبع الحنيفية نفر مثل قسّ بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وأمية بن أبي الصلت ، وكان ذلك تطلبا للكمال ولم يأتهم رسول بذلك.
وهذا التعليل لا يقتضي اقتصار الرسالة الإسلامية على هؤلاء القوم ولا ينافي عموم الرسالة لمن أتاهم نذير ، لأن لام العلة لا تقتضي إلا كون ما بعدها باعثا على وقوع الفعل الذي تعلقت به دون انحصار باعث الفعل في تلك العلة ، فإن الفعل الواحد قد تكون له بواعث كثيرة ، وأفعال الله تعالى منوطة بحكم عديدة ، ودلائل عموم الرسالة متواترة من صريح القرآن والسنّة ومن عموم الدعوة.
وقيل : أريد بالقوم الذين لم يأتهم نذير من قبل جميع الأمم ، وأن المراد بأنهم لم يأتهم نذير أنهم كلّهم لم يأتهم نذير بعد أن ضلّوا ، سواء منهم من ضلّ في شرعه مثل أهل الكتاب ، ومن ضلّ بالخلو عن شرع كالعرب. وهذا الوجه بعيد عن لفظ (قوم) وعن فعل (أَتاهُمْ) ومفيت للمقصود من هذا الوصف كما قدمناه. وأما قضية عموم الدعوة المحمدية