الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل. والمقصود : التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادّعوها. وابتدئ من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلفوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال.
والإشارة بقوله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر ـ ويقال : ابن أسد ـ بن حبيب الجمحي الفهري ـ وكان رجلا داهية قوي الحفظ ـ أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدعونه ذا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل العقل. وقد غرّه ذلك أو تغار به فكان لشدة كفره يقول : «إن في جوفي قلبين أعمل بكل واحد منهما عملا أفضل من عمل محمد». وسمّوا بذي القلبين أيضا عبد الله بن خطل التيمي ، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبرا يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعف عنه ، فنفت الآية زعمهم نفيا عاما ، أي : ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل ، فوقوع رجل وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم ، ووقوع فعل جعل في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي. ودخول (مِنْ) على (قَلْبَيْنِ) للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان ، عن كل رجل من الناس ، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيّا كان.
ولفظ (لِرَجُلٍ) لا مفهوم له لأنه أريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جريا على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضا أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب.
والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي ، أي : ما خلق الله رجلا قلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيدا لإبطال ما تواضعوا عليه من جعل أحد ابنا لمن ليس هو بابنه ، ومن جعل امرأة أمّا لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل ، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة ، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق ، فإن البنوة والأمومة صفتان من