وأطلقت الإثارة هنا على قلب تراب الأرض بجعل ما كان باطنا ظاهرا وهو الحرث ، قال تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) [البقرة : ٧١] ، وقال النابغة يصف بقر الوحش إذا حفرت التراب :
يثرن الحصى حتى يباشرن برده |
|
إذا الشمس مجّت ريقها بالكلاكل |
ويجوز أن يكون (أَثارُوا) هنا تمثيلا لحال شدة تصرفهم في الأرض وتغلبهم على من سواهم بحال من يثير ساكنا ويهيجه ، ومنه أطلقت الثورة على الخروج عن الجماعة. وهذا الاحتمال أنسب بالمقصود الذي هو وصف الأمم بالقوة والمقدرة من احتمال أن تكون الإثارة بمعنى حرث الأرض لأنه يدخل في العمارة. وضمير (أَثارُوا) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (كانُوا أَشَدَّ).
ومعنى عمارة الأرض : جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع. يقال : ضيعة عامرة ، أي : معمورة بما تعمر به الضياع ، ويقال في ضده : ضيعة غامرة. ولكون قريش لم تكن لهم إثارة في الأرض بكلا المعنيين إذ كانوا بواد غير ذي زرع لم يقل في هذا الجانب : أكثر مما أثاروها.
وضميرا جمع المذكر في قوله : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) راجع أولهما إلى ما رجع إليه ضمير (أَثارُوا) وثانيهما إلى ما رجع إليه ضمير (يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ). ويعرف توزيع الضميرين بالقرينة مثل توزيع الإشارة في قوله تعالى : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) في سورة [القصص : ١٥] كالضميرين في قول عباس بن مرداس يذكر قتال هوازن يوم حنين :
عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم |
|
بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا |
وتقدم تفصيله عند قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) في سورة يونس [٥٨] ، أي عمر الذين من قبلهم الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء ، فإن لقريش عمارة في الأرض من غرس قليل وبناء وتفجير ولكنه يتضاءل أمام عمارة الأمم السالفة من عاد وثمود.
وتفريع (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) على قوله (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) إيجاز حذف بديع ، لأن مجيء الرسل بالبينات يقتضي تصديقا وتكذيبا فلما فرع عليه أنهم ظلموا أنفسهم علم أنهم كذّبوا الرسل وأن الله جازاهم على تكذيبهم رسله بأن عاقبهم عقابا لو كان لغير