قد عاد إلى المدينة من الخندق ظهرا وكان بصدد أن يغتسل ويستقر فلما جاءه الوحي بأن يغزو قريظة نادى في الناس أن لا يصلينّ أحدكم العصر إلا في بني قريظة. وخرج الجيش الذي كان بالخندق معه فنزلوا على قرية قريظة واستعصم أهل القرية بحصونهم فحاصرهم المسلمون نحوا من عشرين ليلة ، فلما جهدهم الحصار وخامرهم الرعب من أن يفتح المسلمون بلادهم فيستأصلوهم طمعوا أن يطلبوا أن يسلموا بلادهم على أن يحكّم حكم في صفة ذلك التسليم. ويقال لهذا النوع من المصالحة : النزول على حُكم حَكم ، فأرسلوا شاس بن قيس إلى النبي صلىاللهعليهوسلم يعرضون أن ينزلوا على مثل ما نزلت عليه بنو النضير من الجلاء على أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة ، فأبى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبول ذلك وبعد مداولات نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فحكم سعد أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذّراري وأن تكون ديارهم للمهاجرين دون الأنصار فأمضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما حكم به سعد كما هو مفصل في السيرة.
ومعنى (ظاهَرُوهُمْ) ناصروهم وأعانوهم ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) في سورة براءة [٤].
والإنزال : الإهباط ، أي : من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.
والصياصي : الحصون ، وأصلها أنها جمع صيصية وهي القرن للثّور ونحوه. قال عبد بني الحسحاس :
فأصبحت الثيران غرقى وأصبحت |
|
نساء تميم يلتقطن الصّياصيا |
أي : القرون لبيعها. كانوا يستعملون القرون في مناسج الصوف ويتخذون أيضا منها أوعية للكحل ونحوه ، فلما كان القرن يدافع به الثور عن نفسه سمي المعقل الذي يعتصم به الجيش صيصية والحصون صياصي.
والقذف : الإلقاء السريع ، أي : جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين. والفريق الذين قتلوا هم الرجال وكانوا زهاء سبعمائة والفريق الذين أسروا هم النساء والصبيان.
والخطاب من قوله (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) إلى آخره ... للمؤمنين تكملة للنعمة التي أنبأ عنها قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) [الأحزاب : ٩] الآية ، أي : فأهلكنا الجنود وردهم الله بغيظهن وسلطكم على أحلافهم