يتصرفوا في تلك الأرزاق أن يكون تصرفهم غير مرضي لعبيدهم ، وهذا التشبيه وإن كان منصرفا لمجموع المركب من الهيئتين قد بلغ غاية كمال نظائره إذ هو قابل للتفريق في أجزاء ذلك المركب بتشبيه مالك الخلق كلهم بالذين يملكون عبيدا ، وتشبيه الأصنام التي هي مخلوقة لله تعالى بمماليك الناس ، وتشبيه تشريك الأصنام في التصرف مع الخالق في ملكه بتشريك العبيد في التصرف في أرزاق سادتهم ، وتشبيه زعمهم عدول الله عن بعض ما يريده في الخلق لأجل تلك الأصنام ، وشفاعتها بحذر أصحاب الأرزاق من التصرف في حظوظ عبيدهم الشركاء تصرفا يأبونه. فهذه الهيئة المشبه بها هيئة قبيحة مشوهة في العادة لا وجود لأمثالها في عرفهم فكانت الهيئة المشبهة منفية منكرة ، ولذلك أدخل عليها استفهام الإنكار والجحود لينتج أن الصورة المزعومة للأصنام صورة باطلة بطريق التصوير والتشكيل إبرازا لذلك المعنى الاعتقادي الباطل في الصورة المحسوسة المشوهة الباطلة. ولذلك عقب بجملة (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، أي نفصل الدلائل على الاعتقاد الصحيح تفصيلا كهذا التفصيل وضوحا بينا ، وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الروم : ٢٤] استئناف ابتدائي. والقوم الذين يعقلون هم المتنزهون عن المكابرة والإعراض ، والطالبون للحق والحقائق لوفرة عقولهم ، فيزداد المؤمنون يقينا ويؤمن الغافلون والذين تروج عليهم ضلالات المشركين ثم تنكشف عنهم بمثل هذه الدلائل البينة.
وفي ذكر لفظ قوم وإجراء الصفة عليه إيماء إلى أن هذه الآيات لا ينتفع بها إلا من كان العقل من مقومات قوميته كما تقدم في قوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، وتقدمت له نظائر كثيرة. والقول في إيثار وصف العقل هنا دون غيره من أوصاف النظر والفكر كالقول فيما تقدم عند قوله (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) إلى قوله (يَعْقِلُونَ) [الروم : ٢٤].
وفي هذا تعريض بالمتصلبين في شركهم بأنهم ليسوا من أهل العقول ، وليسوا ممن ينتفعون كقوله تعالى (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١].
وقوله (كَذلِكَ) تقدم نظيره في قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].