الذائعات من جهة ما هي ذائعات مما يقع التصديق بها في الفطرة فما كان من الذائعات ليس بأوّلي عقلي ولا وهميّ فإنها غير فطرية ، ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة مستمرة عليها منذ الصبا وربما دعا إليها محبة التسالم والاصطناع المضطر إليهما الإنسان (١) ، أو شيء من الأخلاق الإنسانية مثل الحياء والاستئناس (٢) أو الاستقراء الكثير ، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق لأن يكون حقا صرفا فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الإطلاق ، ا ه. فوصف الإسلام بأنه فطرة الله معناه أن أصل الاعتقاد فيه جار على مقتضى الفطرة العقلية ، وأما تشريعاته وتفاريعه فهي : إما أمور فطرية أيضا ، أي جارية على وفق ما يدركه العقل ويشهد به ، وإما أن تكون لصلاحه مما لا ينافي فطرته.
وقوانين المعاملات فيه هي راجعة إلى ما تشهد به الفطرة لأن طلب المصالح من الفطرة. وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه وقد بينته في كتابي المسمى «مقاصد الشريعة الإسلامية». واعلم أن شواهد الفطرة قد تكون واضحة بينة وقد تكون خفية ، كما يقتضيه كلام الشيخ ابن سينا ، فإذا خفيت المعاني الفطرية أو التبست بغيرها فالمضطلعون بتمييزها وكشفها هم العلماء الحكماء الذين تمرسوا بحقائق الأشياء والتفريق بين متشابهاتها ، وسبروا أحوال البشر ، وتعرضت أفهامهم زمانا لتصاريف الشريعة ، وتوسموا مراميها ، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.
إن المجتمع الإنساني قد مني عصورا طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل ، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها ، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته ، فتلك يخاف منها أن تتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحق ، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلّ سبيل ، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خير دليل. وكون الإسلام هو الفطرة ، وملازمة أحكامه لمقتضيات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه ، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية ، وهذا ما أفاده قوله (ذلِكَ الدِّينُ
__________________
(١) وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [العنكبوت : ٢٥].
(٢) قال تعالى حكاية عن قوم كذبوا الرسل : تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا [إبراهيم : ١٠] ، وقال : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦].