الإقتداء به ، موضّحاً لهم أنَّها لا تستحق الإهتمام ، ومؤكداً إعراضه عنها ، مع بيان بليغ للعلل التي دفعته إلى ذلك ، ولعل من أورعها ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف ، يقول عليهالسلام : «إليكِ عنّي يا دنيا .. فحبلك على غاربك ، قد انسللت من مخالبك ، وأفلتُّ من حبائلك ، واجتنبتُ الذهاب في مداحضك ، أين القرون الذين غررتِهم بمداعبك؟!. أين الأمم الذين فتنتِهم بزخارفك؟!. فهاهم رهائن القبور ، ومضامين اللحود ، والله لو كنتِ شخصاً مرئياُ ، وقالباً حسياً ، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتِهم بالأماني ، وأمم ألقيتِهم في المهاوي ، وملوك أسلمتِهم إلى التلف ، وأوردتِهم موارد البلاء ، إذ لا ورد ولا صدر.
هيهات! من وَطِئَ دحضكِ زلق ، ومن ركب لُجَجَكِ غرق ، ومن ازورَّ عن حبائِلكِ وُفِّق ، والسالم منكِ لا يبالي إن ضاق به مناخه ، والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزبي عني! فوَالله لا أذل لك فتستذليني ، ولا أسلس لك فتقوديني ، وأيم الله ـ يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضنَّ نفسي رياضة تهش معها إلى القرص ـ إذا قدرت عليه ـ مطعوما ، وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها ، مستفرغة دموعها.
أتمتلي السائمة من رعيها ، فتبرك؟!. وتشبع الربيضة من عشبها ، فتربض؟!. ويأكل عليٌّ من زاده ، فيهجع؟!. قرَّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالهيمة الهاملة ، والسائمة المرعية!» (١).
يعكس هذا الحديث مع الدنيا جهة نظره عليهالسلام في إعراضه عنها ، وزهده في ملذاتها ، وبهارجها ، ونعيمها الزائل ، معللاً ذلك بمعايبها ، فهي تغر من أقبل عليها ، وجعلها أكبر همه ، وتخدعه ، وتورده المهالك ، وتصده عن ضمان مستقبله في
__________________
(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٣.