الحياة الدائمة في الآخرة ، بل وتجعل هذا المستقبل جحيماً ، وعذاباً مقيماً ، لمن أقبل عليها ، ناسياً آخرته ، لا يعرف غير إشباع نهمه ، مقتدياً بالبهائم ، لأنَّه ترك عقله ، فلم يفكر في الحياة كما ينبغي ، مقدّماً ما هو مرهون بالزوال من متع الحياة على كل القيم.
ولو عطفنا هذه الفقرة على ما سبقها من هذه الرسالة ، لظهرت لنا صورة أكثر وضوحاً لما كان عليه الإمام المرتضى عليهالسلام من زهدٍ بالنيا ، وهَوانها عليه ، وإعراضه عن ملذاتها الزائلة ، وهو يطبق على نفسه ما يقوله في هذا المجال ، وما ينصح الناس به ، حيث يقول : «ألا وإنَّ لكل مأمومٍ إماماً يقتدي به ، ويستضي بنور علمه ، ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ، ومن طعمه بقرصيه ، ألا وإنَّك لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بورع واجتهاد ، وعفّة وسداد ، فَوَالله ما كنزت من دنياكم تبرا ، ولا ادخرت من غنائمها وفرا» (١).
ويضيف عليهالسلام قائلاً : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرّى؟!. أو أكون كما قال القائل :
وحسبك داءً أن تبيت ببطنة |
|
وحولك أكباد تحن إلى القدِّ |
أأقنع من نفسي بأن يقال : أمير المؤمنين ، ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!. أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟!. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها تكترش من أعلافها ، وتلهوا عمّا
__________________
(١) نهج البلاغة ٣ / ٧٠.