وعلى هذا البيان فالدقة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل النظري ، والحدّة راجعة إلى سلوك طريق إصلاح العقل العملي. وما في الآخرة تجسد للصراط الدنيوي في الدقة والحدة ، ولا حقيقة له إلّا ما كان للإنسان في هذه الدنيا.
٤ ـ إنّ للإيمان واليقين درجات كما أنّ للقيام بالوظائف العملية مراتب ، فللناس في سلوك الصراط منازل ودرجات. فهم بين مخلص لله سبحانه في دينه ، لا يرى شيئا إلّا ويرى الله قبله ، وبين مقصّر في إعمال القوى النظرية والعملية ، كما أنّ بينهما مراتب متوسطة ، فالكل يسلك الصراط في النشأة الأخرى ، في السرعة والبطء ، حسب شدّة سلوكه للصراط الدنيوي ، ولأجل ذلك تضافرت روايات عن الفريقين باختلاف مرور الناس ، حسب اختلافهم في سلوك صراط الدنيا ، قال الإمام الصادق (ع) : «النّاس يمرّون على الصراط طبقات ، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف ، فمنهم من يمرّ مثل البرق ، ومنهم مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرّ حبوا ، ومنهم من يمرّ مشيا ، ومنهم من يمرّ متعلّقا قد تأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا» (١).
فبقدر الكمال الذي يكتسبه الإنسان في هذه النشأة ، يتثبت في سلوك الصراط الأخروي ، ولا تزل قدمه ، يقول سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٢).
هذا ما يقتضيه التدبّر في الآيات والروايات الواردة حول الصراط ، ومع ذلك كلّه ليس معنى كون الصراط الأخروي تجسما للصراط الدنيوي ، أو سلوكه تمثّلا لسلوكه ، إنكار وجود صراط فوق الجحيم ، لا محيص لكل إنسان عن سلوكه ، بل مقتضي التعبد بظواهر القرآن والحديث وجود ذلك الصراط بمعناه الحقيقي ، وإن لم نفهم حقيقته ، ولا بأس بإتمام الكلام بحديث جابر ، وهو ينقل عن النبي أنّه قال :
__________________
(١) أمالي الصدوق ، المجلس ٣٣ ، ص ١٠٧ ، لاحظ الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٢٩١.
(٢) سورة المؤمنون : الآيتان ٧٣ و ٧٤.