الملاك الثاني : إنّ هناك ملاكا آخر لكون المعاد جسمانيا ، وروحانيا ، يلوح ذلك من كلمات الشيخ الرئيس ، وهو تقسيم المعاد إلى الجسماني والروحاني ، حسب الثواب والعقاب الموعودين : فلو قلنا إنّ العذاب والعقاب ينحصر ان بالجسماني منهما ، كنعيم الجنّة وحرّ الجحيم ، فيكون المعاد جسمانيا ، فقط ، وأما لو قلنا بأنّ هناك ـ وراء ذلك ـ ثوابا وعقابا عقليين لا يمتّان إلى البدن بصلة ، بل يلتذ ويعاقب بهما الروح فقط ، فيكون المعاد ، وراء كونه جسمانيا ، روحانيا أيضا ، وبعبارة أخرى : التذاذ النفس وتألّمها باللذات والآلام العقلية ، فهذا ملاك كون المعاد ، روحانيا.
قال الشيخ الرئيس : «يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ، ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيراته وشروره معلوم لا يحتاج إلى أن يعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيدنا ومولانا محمد صلىاللهعليهوآله ، حال السعادة والشقاء التي بحسب البدن.
ومنه ما هو معلوم مدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس إلى نفس الأمر ، وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصورهما الآن. والحكماء الإلهيون ، رغبتهم في إصابة هذه السعادة أكثر من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية ، بل كأنهم لا يتلفتون إلى تلك وإن أعطوها ، فلا يستعظمونها في جنب السعادة التي هي مقاربة الحق الأول» (١).
__________________
(١) النجاة ، ص ٢٩١. والشفاء ، قسم الإلهيات ، المقالة التاسعة ، الفصل ٧. والظاهر من كلام الشيخ الرئيس أنه لا سبيل إلى المعاد الجسماني إلا بالشريعة وتصديق خبر النبوة ، وقد فسّر كلامه بأنه لا يمكن إثبات المعاد الجسماني وعود البدن مع الروح في النشأة الأخرى بالبرهان ، وإنما الطريق إليه هو الشريعة. ولكنه تفسير خاطئ ، كيف والأقلون من هذا الشيخ الإلهي مرتبة يثبتون ذلك بالبراهين الفلسفية ، وإنما مراده من المعاد الجسماني هو اللذات والآلام الجسمانية من الجنة ونعيمها والنار ولهيبها ، فإن إثبات خصوص هذه اللذات يرجع إلى السمع وعالم الوحي ، ولو لا السمع لما قدرنا على الحكم بأنّ لله سبحانه في النشأة الأخرى هذه النعم والنقم ، بل أقصى ما يمكن إثباته هو أن حشر الأجساد يمتنع أن يكون بلا غاية وبلا جهة ، أو بلا ثواب ولا عقاب ، وأما أن الثواب هو نفس ما ورد في الكتاب من الحور العين والفواكه والثمار وغيرها ، أو أنّ العقاب هو النار ولهيبها ،