سلمنا عجزهم عن المعارضة للقرآن بمثله ؛ ولكن لا نسلم دلالته على صدقه ؛ لأنا إذا فرضنا شخصا حفظه ، ومضى به إلى بلد لم تبلغهم الدعوة ، ولم يسمعوا بمثله ، ولا بمن ورد على يده. فادّعى النّبوّة ، وتحدّى به عليهم.
فإما أن يوجب بذلك التّصديق ، أو لا يوجبه.
فإن أوجبنا التّصديق فهو معلوم كذبه.
وإن لم نوجب التصديق مع ما ظهر لهم على يده من الخارق أفضى ذلك إلي إفحام الرسول الّذي لم يظهر ذلك إلا على يده لإمكان أن يقال له : من الممكن أنّك حفظته من مكان آخر ، ونقلته إلينا. فإذن لا سبيل إلى القول بأنّ ما ينقل ويحفظ ، أن يكون دليلا وآية على صدق المدعى وإن كان خارقا للعادة ؛ بل المعجز الّذي يستدل به على صدق الرسول يجب أن يكون من قبيل ما لا ينقل : كفلق البحر وقلب العصا حية ، وإحياء الميت ، وإبراء الأكمة ، والأبرص ، إلى غير ذلك مما لا سبيل إلى دعوى إمكان ظهوره على يد غير من ظهر على يده.
سلمنا دلالته على صدقه. ولكنّه معارض بما يدلّ على أنه غير صادق فى دعواه.
وبيانه : أنّ موسى كان نبيّا صادقا بما ظهر على يده من المعجزات : كشقّ البحر ، وقلب العصا حيّة ، وبياض يده إلى غير ذلك من الآيات وقد / نقل عنه نقلا متواترا الخلف عن السلف من اليهود أنّه قال لقومه هذه الشريعة مؤبدة عليكم لازمة لكم ما دامت السماوات والأرض. فقد كذّب كل من ادّعى نسخ شريعته ، وتبديل ملّته. فلو قلنا إن محمدا كان نبيّا صادقا ، وأن شرعه ناسخ لشرع موسى ؛ للزم أن يكون موسى الكليم فيما قاله كاذبا ؛ وهو محال.
وهذه هى شبهة العنانية (١) من اليهود.
وزادت الشمعنية (٢) منهم على ذلك بإنكار النسخ عقلا ، وقالوا : لو كان محمد نبيا لجاز القول بنسخ الشرائع. والنسخ فى نفسه محال. فإنه إذا أمر بشيء فذلك يدل على حسنه وكونه مرادا وأن فيه مصلحة. فلو نهى عنه فالنهى عن الشيء يدل على قبحه ،
__________________
(١) العنانية : انظر عنهم ما مر فى هامش ل ١٤٦ / ب.
(٢) الشمعنية : انظر عنهم ما مر فى هامش ل ١٤٦ / ب.